قلنا فى المقال السابق إن من المعانى العظيمة التى كانت فى ذهن الفقيه حين قرر أن الصائم لو أفطر وهو يظن أن المغرب دخل أو الفجر لم يدخل وقد دخلا فعليه القضاء، أى صيام يوم بديل، لأنه بنى تصرفه على معلومة خاطئة أو ظن خاطئ، وأن فلسفة الشرع الشريف من وراء ذلك إعلاء قيمة التدقيق والتوثيق والتثبت.
أيضاً فإن قضية الرحمة التى هى عنوان الشهر الكريم، وجاء بها الحديث الشريف: «رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار»، والمغفرة والعتق من النار من رحمة الله وفضله، تأخذ فى خطابنا الدينى معنى فردياً ضيقاً، حيث تم تقديم الرحمة فى الإسلام على أنها: التراحم بين الأخ وأخيه، وبين المدير والموظف، وبين الجار وجاره، وما إلى ذلك من مظاهر عظيمة دعا إليها الشرع الشريف، واقتضتها دواعى الإنسانية، وكل مظهر من مظاهر الرحمة هو خلق ينبغى أن يذيع وينتشر.
ولكن تظل كلها مظاهر فردية بعيدة عن برامج التطبيق الكبرى، والعمل المؤسسى لمعنى الرحمة، ولو رجعنا إلى واقع تاريخ الإسلام، وكيف تغلغل القرآن فى فكر المسلم وهويته وسلوكه وتاريخه لوجدنا أن «الرحمة» تحولت من كلمة إلى قيمة إلى مؤسسة إلى حضارة، وهذا الذى قصده الدكتور حسين مؤنس بقوله: «ونحن نقصد بالإسلام الدين والحضارة».
لقد تحولت قيمة الرحمة عند العقل المستنير من كلمة إلى قيمة إلى مؤسسة إلى حضارة، وبناءً عليه بدأ يفكر: ما هى أول شريحة من المجتمع تحتاج للرحمة؟ فاكتشف أنها شريحة المرضى، المرضى من كل المذاهب والانتماءات والأديان والألوان، وعلى أثر هذا العقل المستنير حدث أمران:
الأول: أن العقل المسلم استوعب فقه الأوليات، الذى أسس له العز بن عبدالسلام فى (القواعد الكبرى)، فتحولت كلمة الرحمة إلى مؤسسة، وعليه بدأ يبنى المستشفيات، ويدعمها ويوليها أهمية قصوى، وأصبحت التبرعات تذهب لتطبيب الساجد قبل بناء المساجد، ويؤسفك حين تضع مقارنة بين فلسفة هذا العقل المستنير، وبين ما نراه اليوم من أنه لا تخلو عائلة من بناء مسجد فى محيطها، مع أن حاجتنا لتدعيم وبناء المستشفيات أولى وأهم، على ما فى بناء المساجد وإعمارها من أهمية كبيرة.
الثانى: أن الرحمة -التى هى عنوان شهر رمضان- هى عالمية، وليست فردية، واتسعت بهذا الفهم لتشمل المريض المسلم وغير المسلم، وتشمل كل إنسان أياً ما كان مذهبه أو دينه، ومن هنا جاء معنى قوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين».
قال الدكتور أسامة الأزهرى فى كتابه: (الشخصية المصرية) بعد أن استعرض فكرة تحويل الأخلاق إلى مؤسسات، ما خلاصته: «منظومة الأخلاق شجرة لها أغصان وفروع، وبذرة الأخلاق فيها هى الرحمة، وقد تشرب العقل المنير النصوص الداعية للرحمة، ونظر فى كيفية تنفيذها، فحوَّلها من سلوك فردى إلى شعار عام، فانتقلت من كلمة إلى قيمة إلى مؤسسة، ومن جملة المؤسسات المستشفيات والمشافى».