كشفت وقائع الأسابيع الثلاثة الأخيرة فى فلسطين المحتلة عن مجموعة من الحقائق التى ظن البعض أنها أصبحت شيئاً من الماضى الذى عفى عليه الزمن. وأبانت عن تهاوى مجموعة من الأساطير التى سعى واضعوها إلى ترسيخها فى أذهان الناس وجعلها بمثابة الحقائق التى لا فكاك منها.
ولنبدأ بالأساطير التى تهاوت:
1. تهاوت أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر، كما تهاوت من قبل فى حرب أكتوبر المجيدة، وتهاوت كذلك نظرية الأمن الإسرائيلى القائمة على نقل المعركة دائماً إلى أراضى الطرف الآخر. إذ على الرغم من فداحة الخسائر البشرية والمادية فى صفوف الشعب الفلسطينى مقارنة بنظيره الإسرائيلى، فإن الجيش الذى أشاعوا أنه لا يقهر فشل فشلاً ذريعاً فى حماية سماء بلاده، وفشلت القبة الحديدية فى التصدى لصواريخ المقاومة والتى تمكنت -رغم ضعف إمكاناتها- من اختراق هذه القبة والوصول إلى العاصمة الإسرائيلية ذاتها للمرة الأولى.
2. تهاوت أسطورة السلام الإسرائيلى القائم على فرض الأمر الواقع، وتهاوت معها أوهام التطبيع المجانى الذى هرول إليه البعض معتقدين أنه السبيل إلى استقرار الأوضاع فى المنطقة، متناسين أنه ما ضاع حق وراءه مطالب.
3. تهاوت أسطورة «عرب إسرائيل»، أولئك الذين يعيشون فى الأراضى المحتلة منذ عام 1948 ويحملون الجنسية الإسرائيلية، إذ أبانت الأحداث أنهم فلسطينيون حتى النخاع وأنهم شوكة فى ظهر دولة الاحتلال.
أما الحقائق التى أكدتها الأحداث فلعل أهمها:
1. أن القضية الفلسطينية لم تمت، فما زال أبناء الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية وغزة وفى الأراضى المحتلة منذ عام 1948 متمسكين بحقوقهم المشروعة، ومستعدين لتقديم كل غالٍ ونفيس من أجلها. وأن القدس الشرقية كانت وستبقى هى محور الصراع ومفتاح السلام، فبمجرد شروع إسرائيل فى إجراءاتها غير المشروعة فى حى الشيخ جراح وفى الحرم القدسى الشريف انتفض الفلسطينيون فى كل الأراضى المحتلة لحماية القدس والمقدسات.
2. أن مصر، ولا أحد سواها، هى الداعم الأول للشعب الفلسطينى وقضيته العادلة. فبعيداً عن تاريخ القضية وما قدمته مصر فى سبيلها من شهداء وتضحيات تجل عن الحصر منذ حرب 1948 ومروراً بحروب أعوام 1956، و1967، و1973، لا يعادل عشر معشاره ما قدمه الآخرون جميعاً. أبانت الأحداث الأخيرة أن ما قدمه هؤلاء من دعم مالى أو معنوى، وأن ما رفعوه من شعارات للاستهلاك الداخلى لدى شعوبهم لم يجاوز حناجرهم، لم تغن، هذه أو تلك، الشعب الفلسطينى شيئاً، وأنه عندما وقعت الواقعة لم يجد الفلسطينيون نصيراً حقيقياً سوى مصر، التى نجحت جهودها الدبلوماسية، باعتراف المجتمع الدولى كله بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وما وراءها من ضغوط مارستها على دولة الاحتلال، فى وقف العدوان الغاشم.
3. أن مصر، كانت وما زالت وستظل، تعتبر القضية الفلسطينية جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى. وإذا كانت مصر قد انكفأت على نفسها عدة سنوات، بعد أحداث يناير 2011 وما بعدها، تعيد لملمة نفسها وبناء مؤسساتها من جديد، وهو ما جعل بعض الواهمين يظن أنها قد تخلت عن أدوارها فعنَّ لهم أن يشغلوا مكانها، فها هى الأحداث تثبت بيقين أن استراحة المحارب قد انتهت، وأنه قد عاد وبمنتهى القوة يصلح -بعون الله- ما أفسده الدهر، فلم تشغله التحديات الجسام التى يواجهها فى ليبيا، ولا التحدى الوجودى شديد الخطورة الذى يواجهه فى ملف النيل وسد النهضة، فضلاً عن تحديات الإصلاح وإعادة البناء الداخلى، لم يشغله هذا كله عندما حانت اللحظة أن يمد يده إلى أشقائه الفلسطينيين، ليس دعماً سياسياً ودبلوماسياً فاعلاً وشديد الأهمية والتأثير فحسب، وإنما، ودون من ولا أذى، بالإضافة إلى ذلك دعم مادى كريم، ربما بأكثر مما تحتمل الطاقة، تسهم به مصر فى إعادة بناء ما خربه العدوان.
رحم الله حافظ إبراهيم شاعر النيل حين قال على لسان مصر:
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق
ودراته فرائد عقدى
أنا إن قدر الإله مماتى
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى