فى أعقاب وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، أكد الرئيس الأمريكى بايدن ووزير خارجيته بلينكن، أن حل الدولتين هو المسار الطبيعى، الذى يوقف مثل هذه الصراعات، كالتى حدثت فى غزة، وأنه حل يضمن بقاء إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، مقابل دولة فلسطينية، وفق منظور يضمن الأمن المتكافئ، مع تأكيد ضمان الولايات المتحدة بقاء وأمن إسرائيل دون أى تغيير. وفى قول صريح لا يحتمل اللبس اعتبر الرئيس بايدن أنه لا سلام فى منطقة الشرق الأوسط ما لم يتم الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وأن سياسة إدارته فى هذا الشأن ستكون الدبلوماسية.
هذه التصريحات تفتح الباب أمام التفاؤل النسبى بأن ما عُرف بصفقة القرن إبان فترة الرئيس السابق ترامب، قد ذهب إلى غير رجعة، وهى الصفقة التى استهدفت منح إسرائيل كل شىء، كضم الأراضى المحتلة والقدس واستمرار الحماية الأمريكية الأبدية، وتصاحبها تصفية القضية الفلسطينية كقضية تحرُّر وطنى، واعتبارها حالة إنسانية يمكن استرضاء شعبها بمبلغ من المال، مع تجاهل الأبعاد الأخرى كالهوية والحقوق التاريخية وتحرير الأرض وحق العودة والدولة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس. لكن التصريحات نفسها تتطلب التعامل الحذر إلى أن تتضح ملامح الخطوات المقبلة، وحجم الدور الذى ترغب واشنطن فى القيام به، ووفق أى صيغة؛ منفردة كما حدث فى السابق وانتهى إلى لا شىء، أو بمشاركة أممية، أو عبر الرباعية الدولية ومشاركة من القوى الإقليمية، لا سيما مصر والأردن والسعودية.
فى كل الأحوال، نحن الآن أمام مشروع الرئيس بايدن، الذى يتشارك جزئياً مع الموقف العربى المعلن منذ عام 2000، وقوامه الأرض والدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس مقابل السلام والاعتراف بإسرائيل دون تحديد وصف معين لها، والمعروف بحل الدولتين. الرؤية الأمريكية رغم عموميتها، تستحق دراستها بعمق وبيان جوانبها المختلفة وما تثيره من أسئلة كبرى، لن تتوقف عند حد الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة بالضفة والمحاصرة كغزة، أو فلسطينيى الشتات، بل تضم أيضاً الفلسطينيين الذين تمسّكوا بأرضهم منذ عام 1948، ويحملون الجنسية الإسرائيلية ويوصفون بعرب إسرائيل. وتمتد هذه التحديات إلى سؤال عريض أو تحدٍّ كبير لا يقل أهمية عن باقى الأسئلة، ويتعلق بمصير المستوطنين الإسرائيليين فى الضفة الغربية المحتلة.
هذه القائمة من الأسئلة يمثل كل منها تحدياً كبيراً ومعقّداً، سنقصر الأمر على بيان تعقيد اثنين منهما؛ الأول مفهوم الدولة اليهودية الذى أشار إليه الرئيس بايدن ومصير الفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية، وهم عرب أصلاء يدينون بالإسلام والمسيحية، يعيشون فى أراضيهم وليس فى أراضى الغير، ولم يأتوا مثل الغرباء. والثانى مصير المستوطنات والمستوطنين فى الضفة الغربية حال إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
الثابت أن الحركة الصهيونية استهدفت الاستيلاء على كل فلسطين، كما استهدفت اقتلاع كل الفلسطينيين منها. وهما هدفان تحقّقا جزئياً، والدليل أن الكيان الإسرائيلى لا يسيطر على كل فلسطين التاريخية، كما أن وجود الفلسطينيين العرب بما يوازى 20 فى المائة من إجمالى المقيمين فى ما يُعرف بأراضى الخط الأخضر، يعنى فشل مفهوم الاقتلاع وبناء الدولة اليهودية النقية دينياً. ومع تنامى قوة ونفوذ اليمين الصهيونى، تكررت محاولات فرض مفهوم الدولة اليهودية من خلال تشريع قانون يفرض على كل المقيمين الولاء لهذا المفهوم بكل تبعاته القانونية والسلوكية، واستمرت المحاولات طوال العامين الماضيين، دون تطبيقه، وظلت إشكالية فرض الأمر على 20 فى المائة من السكان، وهم يدينون بديانات أخرى ويرفضون قبول هذا المفهوم. كثير من المتطرفين الإسرائيليين رأوا الحل فى تخيير هؤلاء، إما الولاء للدولة اليهودية أو الخروج منها، ولكن إلى أين؟، فهم فى بلدهم ولم يأتوا من غيرها كاليهود الذين جاءوا من بلدان كثيرة واستوطنوا فى فلسطين التاريخية. ولذلك يبدو إصرار الرئيس بايدن على مفهوم الدولة اليهودية كشرط لأى حل مرتقب، بمثابة عقبة وليست جزءاً من أى حل، خاصة بعد أن أظهرت المصادمات التى جرت فى المدن العربية أو المختلطة أن فكرة التعايش فى ظل السياسات العنصرية والتمييز المنهجى تشكل مصدراً خطيراً لتفكك المجتمع الإسرائيلى ذاته.
العقبة الثانية لا تقل تعقيداً عن الأولى، وهى تتعلق بمصير المستوطنين فى الضفة الغربية المحتلة ومدى تأثير وجودهم على فرص إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين. فمن المعروف أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1967 حتى الآن، أنشأت الكثير من المستوطنات والبؤر الاستيطانية على أراضى الضفة الغربية، بما يفوق 200 مستوطنة مختلفة الأحجام والمساحات، ويعيش فيها جميعاً حسب إحصاءات عام 2018، ما يزيد على 467 ألف مستوطن، يحصلون على امتيازات ومحفّزات نقدية وخدمات وحماية مباشرة طوال اليوم من الجيش الإسرائيلى. وهناك تفكير فى المؤسسات الإسرائيلية يتعلق بسن قانون يفرض تطبيق القانون الإسرائيلى على هؤلاء بدعوى أنهم مواطنون إسرائيليون لا يجوز ألا تُفرض عليهم قوانين الدولة، وهى حيلة تعنى فرض سيطرة كاملة على تلك المستوطنات وإلحاقها بالكيان الإسرائيلى، وبالتالى ضمها، وخصمها من مساحة الضفة الغربية المفترض أنها الأرض التى تشكل أساس الدولة الفلسطينية، إضافة إلى أراضى قطاع غزة.
يُذكر هنا أن إنشاء تلك المستوطنات استهدف أيضاً فصل الأراضى الفلسطينية، ومنع التواصل الطبيعى بين القرى والبلدان والمدن الفلسطينية، وبما يقيّد فكرة إنشاء دولة متواصلة الأراضى والسكان مثل أى دولة طبيعية فى العالم. ولعل الولايات المتحدة لديها تصور للخروج من هذه القيود، لا سيما فى ضوء ما تردّد بأن واشنطن، وكذلك عدد كبير من الدول الأوروبية، يرون أن هذه المستوطنات غير مشروعة، فهل يمتد الأمر إلى الطلب من الحكومة الإسرائيلية، ليس فقط وقف توسيع المستوطنات القائمة أو وقف بناء أى بؤر استيطانية جديدة، بل أيضاً تفكيك بعض تلك المستوطنات وترحيل سكانها إلى الداخل الإسرائيلى ذاته، وبما يمهد إلى نوع من التواصل بين الأراضى الفلسطينية حال الاتفاق على قيام دولة فلسطينية؟
وفلسطينياً، من الممكن حل إشكالية المستوطنين بعد إقامة الدولة، باعتبارهم مقيمين تُطبّق عليهم القوانين الفلسطينية لمن يريد أن يبقى، وهو تصور مثالى رغم أنه منطقى، يقابله التصور الصهيونى المعروف والمتحكم فى قرارات مؤسسات الكيان الإسرائيلى بأن الضفة هى أرض توراتية من حقهم الإقامة فيها والتوسع والضم، والمتصور أن قبول بقاء البعض من المستوطنين تحت سيطرة دولة فلسطينية لن يمر ببساطة، ويظل السؤال كيف ستتصرف واشنطن؟ وهل لديها قدرة على إقناع اليمين الإسرائيلى بتفكيك مستوطنة أو أكثر؟