إلقاء القبض على قاسم مصلح الأسبوع الماضى، فتح على بغداد العاصمة فصلاً جديداً من الاحتقان الأمنى المكتوم، حبس المجتمع العراقى أنفاسه على وقع التوترات بين الحشد الشعبى والقوات الأمنية العراقية، إذ احتشدت جموع كبيرة من عناصر الحشد الشعبى أمام بوابات المنطقة الخضراء، فى ساعة متأخرة من اليوم نفسه الذى ألقى فيه القبض على القيادى البارز بميليشيا الحشد، بهدف الضغط على رئيس الوزراء العراقى لإطلاق سراحه أو تسليمه بشكل فورى، إلى جهاز الأمن التابع للحشد وفق الوساطات التى خرجت سريعاً فى محاولة لاحتواء الموقف.
ألقت قوات الأمن العراقية القبض على قاسم مصلح، الذى يتولى قيادة عمليات الحشد الشعبى فى غرب محافظة الأنبار منذ عام 2017، ويقود أيضاً أحد الألوية المعروف داخل كيانات الحشد باللواء 13. اللافت أنه بعد أسبوع تقريباً من هذا الحدث الفارق فى معركة تكسير العظام، التى تدور بين رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى والحشد الشعبى، أن التضارب ما زال سائداً حول أسباب القبض على قاسم مصلح. نقل البعض عن مصادر أمنية عراقية، أن التوقيف جاء لاتهامه باغتيال ناشطين عراقيين، فيما أعلنت «رويترز» نقلاً عن مسئولين أمنيين عراقيين أيضاً، أن اعتقال «مصلح»، جاء على خلفية صلته بهجوم صاروخى أخير وقع على القاعدة الأمريكية فى «عين الأسد». القيادى بالحشد استلزم الوصول إليه القيام بعملية إنزال جوى، نفّذت فى منطقة «الدورة» جنوب غربى العاصمة العراقية بغداد، هناك من يؤكد أنها جرت بإسناد أمريكى وفق معلومات استخباراتية على الأقل. قاسم مصلح شغل سابقاً قيادة اللواء «على الأكبر» الذى تديره المرجعية الشيعية مباشرة، وقبلها كان قائداً لقوات «حفظ النظام» التابعة للعتبة الحسينية فى كربلاء، فهو ابن هذه المدينة التاريخية وسكنت عائلته المحافظة منذ عشرات الأعوام.
قاعدة «عين الأسد» الأمريكية بالعراق، تعرّضت لأربع هجمات على الأقل خلال هذا الشهر، باستخدام صواريخ ذات مدى قصير ومتوسط يمتلك منها الحشد الشعبى أعداداً وطرازات كثيرة ومتنوعة، ومرات وقعت بواسطة طائرات مسيرة مفخّخة على النمط الشهير ذاته الذى تستخدمه ميليشيات «الحوثى» باليمن منذ سنوات. رغم أن بيان رئيس الوزراء خلا من ذكر اسم قاسم مصلح، إلا أنه وضع اتهام ضلوعه فى هذه الهجمات، ووقوف فصيله وراءها سبباً فى صدور القرار بالقبض عليه وفق (المادة 4) من قانون مكافحة الإرهاب، وبمذكرة قبض قضائية. أعقب هذه الخطوة المفاجئة التى نفّذت بنجاح خاطف، توجّه عشرات السيارات ذات الدفع الرباعى يستقلها مسلحون تابعون للحشد، إلى المنطقة الخضراء المحصّنة فى بغداد، التى تضم سفارات أجنبية ومبانى حكومية فى شكل من أشكال استعراض القوة، فى الوقت الذى كانت فيه الوساطات تحاول الضغط على رئيس الوزراء، باعتبار إشعال الشارع والعبث بالمعادلة الأمنية قد يأتى بديلاً فى حال لم يتراجع الكاظمى عن قراره. هناك فى بغداد من أكد أن استعراض القوة استمر لنصف ساعة فحسب قبل انسحاب المسلحين، لكن المقاطع المصوّرة لما جرى، والتى تم ترويجها بكثافة مقصودة، أظهرت أن مجموعة من الحشد الشعبى -ظاهرة من ملابسها- تمكنت من السيطرة على أحد مداخل المنطقة الخضراء، لفترة تجاوزت ليلة كاملة وحتى صباح اليوم التالى.
رئيس الوزراء الكاظمى ومعه وزير الدفاع العراقى؛ تعاملا مع الأمر رغم جرأته التى وصفها «الكاظمى» بـ«الانتهاك الخطير للدستور والقوانين النافذة»، بقدر عالٍ ومحكم من الثبات الانفعالى، وكان إيجابياً إلى حد كبير إصرار مصطفى الكاظمى على تأكيد أن أمر التوقيف صادر منه شخصياً، ووفق مقتضيات منصبه. بعدها مباشرة كان القرار الحكومى بالإسراع إلى نشر قوات الأمن وجهاز مكافحة الإرهاب، لحماية مقار الحكومة والبعثات الدبلوماسية، وإغلاق المنطقة الخضراء وجميع الطرق المؤدية إليها، وبدت قبضة الدولة الرسمية جاهزة لإجهاض التهديدات الصريحة التى صدرت عن الفصائل المسلحة، بالثأر والانتقام لتوقيف قاسم مصلح. السبب الذى دفع رئيس الوزراء والقوات الأمنية للتحرك بهذه القوة، ربما يكمن وراء الرواية الأخرى التى يتم تداولها كسبب حاسم لإلقاء القبض على «مصلح»، فقد شهدت مدينة بغداد ومعظم مدن ومحافظات الوسط والجنوب، تظاهرات حاشدة قبل أيام من توقيف «مصلح»، اضطرت معها القوات الأمنية لمواجهتها بحملة اعتقالات واسعة، بعد أن انزلقت فى بعض المناطق لإطلاق النيران المتبادل الذى أسفر عن مقتل متظاهر فى بغداد.
التظاهرات اندلعت على خلفية اغتيال «إيهاب الوزنى»، رئيس تنسيقية حراك مدينة كربلاء، ومعه زميله «فاهم الطائى» فى الثامن من مايو. نفّذ الاغتيال بحق الناشطين عندما أطلق مسلحون النار عليهما من مسدس كاتم للصوت فى مدينة كربلاء، مما فجر المطالبات بوضع حد لهذه العمليات التى يشهدها كثير من المدن العراقية، وفى أغلبها تعلق فى رقبة فصائل من الحشد الشعبى كهذه التى يقودها «مصلح». فقد تجاوز «الوزنى» الخطوط الحمراء بانتقاده العلنى للمنظمات المسلحة والنفوذ الإيرانى فى العراق، وتزعم الاحتجاجات فى كربلاء، حيث يوجد حضور قوى للجماعات المسلحة المؤيدة لطهران، لم تجد سوى إلحاق «الوزنى والطائى» بقائمة اغتيالات تجاوزت الـ«70 ناشطاً»، منذ انطلقت الاحتجاجات فى 2019 ولم تصل أجهزة التحقيق لأىٍّ من المتهمين بارتكاب هذه الجرائم حتى الآن.
فى تجربة العام الماضى؛ حين داهمت قوة تابعة للأمن العراقى أحد مقار الميليشيات المدعومة من إيران، وألقت القبض على 10 من عناصرها متهمين بانتهاك القوانين العراقية، ما كان من رفاقهم سوى التحرك بسياراتهم وعناصرهم المسلحة باتجاه مبانٍ حكومية فى المنطقة الخضراء، مطالبين بالإفراج عن عناصر الميليشيا، ومهددين قوات الأمن فى تحدٍّ سافر، حينها تم إطلاق سراح معظم المعتقلين فى غضون ساعات. هذه المرة مصطفى الكاظمى يتحرك بثبات لا يخلو من حزم، مكتسباً مساحة متقدمة من الأرض، وبدا إصراره على عدم العودة للخلف مهما كان الثمن. حيث تظل معادلة التسلح بإنفاذ القانون قادرة على مساعدته فى الاستحواذ على قرار استخدام قوة الدولة، من أجل تطهير المناطق المظلمة فى معادلة الأمن العراقى المثقلة بالهموم.