تابعت المؤتمريْن الصحفييْن للرئيسيْن الروسى بوتين والأمريكى بايدن بعد انتهاء اللقاء الأول بينهما فى جنيف قبل أسبوع مضى، والذى أسس لتفاهمات رئيسية حول عدة قضايا تمثل للبلدين وللعالم أهمية كبرى؛ كالاستقرار الاستراتيجى ذى الصلة بالأسلحة النووية، والاتفاق المبدئى على ضبط الهجمات السيبرانية الموجهة للبنية التحتية، وتحديد ضوابط خاصة بالقطب الشمالى، فضلاً عن الاتفاق على عودة السفيرين لمواقع عملهما، وبدء وزارتى الخارجية لحوار حول القضايا التى تتطلب مزيداً من تبادل الآراء، وصولاً إلى تفاهمات عملية لاحقة.
هذه التفاهمات المبدئية، ورغم كونها تمثل جزءاً يسيراً من كل كبير، فإنها تفتح الباب أمام حوار مكثف لوضع النقاط على الحروف للعديد من الإشكاليات السياسية والاستراتيجية الكبرى، كالوضع فى أوكرانيا، والأزمة السورية، والدور الروسى فى أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكى، والصعود الصينى اقتصادياً وعسكرياً، ومصير المعارضة الروسية، ممثلة فى «نافالنى» المحكوم عليه بالسجن، والدور الإيرانى فى حال تم توقيع اتفاق بشأن العودة لبرنامج العمل الشامل الخاص بالقدرات النووية الإيرانية.
وفى كل الأحوال تبدو نتائج القمة ثابتة فى مجال وقف التدهور فى علاقات البلدين، أما البناء للغد فيتطلب بناء حالة ثقة، مثلت القمة مجرد فتح ثغرة صغيرة فى حائط عالٍ وصلب، يرى المتفائلون أنها بداية جيدة فى كل الأحوال.
بالعودة إلى المؤتمرين الصحفيين المنفصلين لكل من «بوتين وبايدن»، نلاحظ ما يلى؛ أن المدة الزمنية لكل مؤتمر على حدة اختلفت ما بين ساعة تقريباً لمؤتمر الرئيس بوتين، مقابل نصف الساعة لمؤتمر الرئيس بايدن.
وبينما شارك صحفيون أمريكيون فى مؤتمر الرئيس بوتين ووجهوا أسئلة مباشرة له ودون ترتيب مسبق، اقتصر مؤتمر الرئيس بايدن على عدد محدود من الصحفيين الأمريكيين الذين وضعت أسماؤهم فى قائمة أمام الرئيس منعاً لاختلاط الأسماء، ومن ثم وضع الأمور فى سياق مُرتب مسبقاً، والذى شمل أيضاً عدم مشاركة أى صحفيين روس فى هذا المؤتمر.
وبينما لم يقرأ الرئيس بوتين من ورقة معدة مسبقاً حول الحصيلة العامة للقاء القمة، كانت هناك ورقة مسبقة قرأ منها الرئيس بايدن؛ لخص فيها جدوى اللقاء، وركز على الرسائل التى وضعها أمام نظيره الروسى، والتى كان عبر عنها قبل عقد اللقاء من خلال تصريحات متتالية فى اجتماع مجموعة السبع فى بريطانيا، واجتماع قمة الناتو فى هلسنكى، واللذيْن سبقا لقاءه مع «بوتين».
المقارنة على هذا النحو تكشف عن فارق كبير فى مدى ثقة الجهات المنظمة للمؤتمرين فى قدرة الرئيس على مواجهة الإعلام الدولى والمحلى وما قد يطرحه من موضوعات مثيرة للجدل وقد تسبب حرجاً للرئيس، كما تكشف أن الانفتاح على انتقادات محتملة قد يوجهها صحفيون غير محليين والقدرة على مواجهتها كانت موجودة لدى الرئيس بوتين، فى الوقت الذى اختفى فيه تماماً هذا البُعد لدى مؤتمر الرئيس بايدن.
أما مضمون ما طرحه الصحفيون فنلاحظ أن مجمل الأسئلة التى وجهت للرئيسين ركزت على الرغبة فى الحصول على «عناوين مثيرة» وليس بالضرورة إجابات تتعلق بما حدث بالفعل.
الصحفيون الأمريكيون فى كلا المؤتمرين ركزوا على الطريقة التى عبر فيها الرئيس بايدن عن ما وصفه مسبقاً بالخطوط الحمر، وهل كانت عدائية وكيف كانت استجابة الرئيس بوتين، وعن وضع المعارض الروسى «نافالنى»، وعن مسئولية «بوتين» الشخصية عن الهجمات السيبرانية التى تعرضت لها شركتان أمريكيتان كبيرتان فى مجال توزيع الأغذية والطاقة.
وهى أسئلة انطلقت من افتراض مسبق بأن الرئيس بوتين شخصياً مذنب، وأن عليه أن يتلقى اللوم ويعترف بالمسئولية عن الكثير من أزمات الولايات المتحدة، وعليه أن ينصاع إلى الطلبات والأوامر التى افترضوا أن الرئيس بايدن قد وضعها على الطاولة، وليس من خيار لدى روسيا سوى قبولها وإلا تعرضت لعقوبات وضغوط.
الرئيس بوتين أكد أن لغة الحوار لم تكن عدائية، ووافقه الرأى الرئيس بايدن، ومع ذلك لم ترض هذه الإجابات الصحفيين الأمريكيين فى المؤتمرين، كما لم ترضهم إجابة الرئيس بوتين حول أسباب سجن المعارض «نافالنى»، ولا تفسيراته حول مسئولية المؤسسات فى حماية البلاد من الفوضى، لا سيما إن كانت موجهة ولو بطريق غير مباشر من جهات خارجية.
أما الإشارة التى رصدها «بوتين» بشأن وقوف المؤسسات الأمريكية ضد الفوضى ومعاقبة عبر القانون للذين شاركوا فى العنف الذى شهده مبنى الكونجرس الأمريكى قبل تولية الرئيس بايدن مسئولياته الرئاسية، فقد أثارت الامتعاض ولم يفهموا المغزى من تلك الإشارة.
لم يهتم الصحفيون الأمريكيون، وهم ممثلون لكبرى القنوات الفضائية والصحف الأمريكية ذات النفوذ الهائل، بدلالات عودة السفيرين وبدء حوار بين مسئولى خارجية البلدين يعالج قضايا استراتيجية تهم العالم كله. وهنا تبدو المشادة العابرة بين الرئيس بايدن ومراسلة قناة «سى إن إن» ذات دلالة بارزة، والتى انتهت بلوم الرئيس بايدن للمراسلة باعتبارها لا تفهم ما قيل، وأنها فى المهنة الخطأ، وهى العبارات التى اعتذر عنها لاحقاً.
السؤال الذى طرحته المراسلة كان نوعاً من اللوم الضمنى للرئيس بايدن لأنه لم يؤكد قبول الرئيس بوتين للخطوط الحمر، ولم يؤكد تغير السلوك الروسى بعد هذا اللقاء، بل قال إنه لا يستطيع ذلك، وإن تغير سلوك الرئيس بوتين مرهون بمدى الضغوط المعنوية التى سيتعرض لها إذا استمر على السلوك الضار والمخالف للقوانين الدولية من وجهة نظره.
تبدو لى هذه الإجابة التى لم تقنع مراسلة كبرى القنوات الإخبارية فى العالم طبيعية جداً. ولكنها بالنسبة للمراسلة الغاضبة كانت مؤشراً على فشل القمة، وتحديداً فشل الرئيس بايدن، وهى الزاوية التى التقطها الرئيس ورد عليها بغضب.
هذه المشادة عكست بدورها القيم التى ينطلق منها الإعلام الأمريكى فى تحليله للعديد من القضايا العالمية، وليس فقط قمة الرئيسين بوتين وبايدن، ومركزها أن أمريكا كقائد للعالم عليها أن تأمر، وعلى الآخرين السمع والطاعة.
كثير منهم لا يتصورون أن العالم متعدد الرؤى والمصالح والسياسات، ولا يتصورون أن هناك منظومات تؤمن بها مجتمعات عديدة، وتراها الأصلح، مقارنة بما هو لدى الولايات المتحدة. وكثير منهم أيضاً يؤمنون بأن هؤلاء المختلفين فى القيم والسياسات لا يستحقون الحياة.
المشكلة الأكبر هنا ليست مجرد الانحياز لقيم مسبقة واعتبارها أساس التحليل والرؤية، بل مخالفة مباشرة لحرية الرأى والمعتقد، وهى أكثر المبادئ التى يتم الحديث عنها فى الغرب عامة كأساس لما يسمى بالإعلام الديمقراطى.