3 حكايات من قلب «التسرب»: «رغم المرارة.. لسّه الأحلام ممكنة»
«كان ممكن يطلع منهم دكتور ومهندس وعالم ومعلم.. لكن يا خسارة، أجبرتهم الظروف المعيشية وأسباب أخرى على التسرب مبكراً من التعليم».. ترى، كيف ينظر هؤلاء إلى أحلامهم التى تبخرت الآن؟
«الوطن» حاورت عدداً من الأطفال المتسربين من مراحل التعليم الأساسى وأسرهم، فماذا قالوا عن «أحلامهم الضائعة»؟ إلى التفاصيل..
على رصيف متهالك ومظلة بائسة، اعتادت «إيمان»، بنت التاسعة، أن تستيقظ مبكراً لتذهب مع أمها إلى فرشة الخضار، بأحد شوارع العمرانية، ترتفع عيناها كلما مر شخص أملاً فى أن يكون أحد الزبائن القليلين، تبدو بغطاء أخفت به شعرها أكبر من سن طفلة فى التاسعة، تقول «إيمان»: «كنت بحلم أكون دكتورة وأخفف الألم عن أى مريض، وكنت بحب المذاكرة وبذاكر طول اليوم بعد المدرسة وخطى كمان حلو فى الكتابة، وكنت بعمل كل الواجبات بتاعتى».
تصمت قليلاً وهى تتذكر بأسى وشرود تفاصيل رحلة قصيرة أجبرتها على الانقطاع عن الدراسة، وبصوت هامس تكمل: «زعلانة جداً إنى سِبت المدرسة، ونفسى أرجع تانى لصحباتى وللمدرسين اللى بحبهم، لكن ماما لما تعبت كان لازم أساعدها وأساعد إخواتى، أنا عندى إسراء ومحمد أصغر منى، وكان لازم أكون معاهم فى البيت وماما فى المستشفى، ونزلت الشغل بدالها، ومن بعدها بابا قال لى ساعدى أمك علشان ما تتعبش تانى».
حديثها المتقطع عن أيام المدرسة يجعل صوتها الواهن يعلو، كمن تنتظر من تشكو له حلمها الضائع، وباستسلام تام للقدر لم يخلُ من أمل، تقول: «الحمد لله، أنا هشتغل كتير وهحوش فلوس كتير، وأول ما أكبر وأتجوز ويبقى عندى أولاد، هدخلهم كلهم المدارس، وهساعدهم وهذاكر معاهم علشان يتعلموا كويس، ومش هخرجهم أبداً من المدرسة».
تقطع أم إيمان حلم صغيرتها رغم انشغالها بترتيب بضاعتها: «يا بنتى التعليم ده للناس اللى ربنا مديها، إحنا عايزين نعيش، البنت شاطرة وذكية، وأنا لما تعبت ودخلت المستشفى، أبوها نزلها مكانى على فرشة الخضار، وعرفت تبيع وتشترى أحسن منى كمان، زى ما كانت شاطرة فى المدرسة، وأبوها قال كفاية عليها إنها بتعرف تقرا وتكتب، سيبيها تساعدك وتتعلم شغلانة تاكل منها عيش». «إيمان» ليست الوحيدة التى تنازلت عن طفولتها وتعليمها لتصبح طفلة عاملة طبقاً لما يحتمه عليها قانون الفقر والحاجة؛ فالطفلة «ندى» تشاركها نفس المصير بعد أن تركت هى الأخرى المدرسة لتستقرا جنباً إلى جنب للأبد فى سوق الشقاء.
فى أحد شوارع منطقة العمرانية، تجلس «ندى»، بملابسها المتسخة وسنواتها الثمانى، على عربة جمع القمامة بجوار والدها «أحمد»، المتخصص فى جمع الزجاجات البلاستيكية من صناديق القمامة، وقد أخفى الغبار بعض ملامح طفولتها، كما اختفت تعابير البهجة من تقاسيم وجهها.
بخوف تقول «ندى»: «أنا كنت فى المدرسة، وخرجت وأنا فى تانية ابتدائى، كنت محتاجة كتب المدرسة، وأبويا قالى مفيش فلوس علشان الكتب، اتعلمى من المدرسين وخلاص، والأستاذة قالت لى ما تجيش المدرسة تانى غير لو جيبتى مصاريف المدرسة ومصاريف الكتب».
«ندى» ترفض العودة للمدرسة خوفاً، وتضيف: «المدرسين بيضربونا جامد، وأنا كل يوم الصبح كنت بقول لأمى أنا مش عايزة أروح، هيضربونى، أنا عايزة أشتغل مع أبويا، وفى الأيام اللى بيكون فيها فلوس أبويا بيشترى لى أيس كريم وعصير قصب أنا واخواتى، أحسن من المدرسة».
يلتفت الأب وبيده زجاجات استطاع أن يخرجها بصعوبة من أكوام القمامة الملقاة على جانب الطريق، مقاطعاً حديث فتاته الصغيرة، وقد بدا منزعجاً: «الحال كان واقف، والناس ما كانتش بتبيع ولا بتشترى، وأنا إيديا وقفت وما قدرتش أوفر لها المصاريف، كانوا استحملونا سنة، وهم لما يقولولها ما تجيش المدرسة إلا لما تجيبى الفلوس، أنا هسرق وأجيبلهم؟ ده أنا عندى غيرها 3، اللى يتعلم على كده يتعلم، وهما اللى اتعلموا خدوا إيه؟».
على الطريق السريع المؤدى إلى قريته، يحكم «يوسف» قبضته اليمنى على المطرقة الحديد، وباليسرى يثبت خوصة من الحديد الساخن، يطرق عليها بضربات متقطعة بقوة، وأمام ورشة الخراطة الخاصة بوالده، يبدو الطفل بملابسه الممزقة الملطخة بالسواد أكثر حيوية ونشاطاً من الرجال الذين يعملون بهذه الحرفة منذ سنوات، وأكثر احتمالاً لمتاعبها من غيره من الأطفال الذين يعملون بمثل تلك الأعمال المرهقة.
«يوسف»، 12 سنة، انقطع عن التعليم ما بين المرحلة الابتدائية والإعدادية، لسبب لا يعرفه والداه، يقول وهو يتابع عمله: «التعليم مش بس فى الكتب، أنا هنا اتعلمت مهنة، الفرق بين تعليم المدارس وتعليم الورش إن أنا هنا باخد فلوس وبحس إنى راجل وفاتح بيت، إيه فايدة إنى أروح أتعلم وأرجع البيت آخر اليوم أو وأنا رايح المدرسة الصبح أقول لأبويا عايز مصروف، بدل ما أساعدهم فى تربية اخواتى، الدنيا صعبة يا أستاذة، وأنا مش عايز أبويا ولا أمى يتعبوا لوحدهم».
يبتسم «يوسف» قائلاً بكل رضا واطمئنان: «كل واحد فى الدنيا بياخد نصيبه، وأنا عارف إن التعليم مهم، بس أنا مش جاهل، أنا بعرف أقرا وأكتب وبتابع البرامج فى التليفزيون، وما باليد حيلة، الشغل أولى من التعليم والدنيا مش بتنتظر حد».
ندا تعمل مع والدها فى جمع القمامة
يمسح بذراعه المتسخة بالسواد قطرات من العرق تصببت على جبينه، ويكمل: «أنا بصحى كل يوم الساعة 6 الصبح علشان أفتح الورشة قبل أبويا، ومش كل يوم بكون قادر أصحى من النوم، أصل ضرب الحديد صعب والشاكوش تقيل، وبرجع البيت أنام ما احسش بنفسى، بس بفرح لما بتخلص بوابة ولا شباك حديد أنا اللى بكون راسمه بالكامل، وبفرح لأن الناس بيقولوا إنى معلم فى صنعتى».