أعلنت حركة «طالبان»، أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية، رفضها القاطع لبقاء وتطوير الوجود العسكرى التركى على الأراضى الأفغانية، ممثلاً فى مقترح إدارة وتأمين مطار كابول الدولى بمعرفة عناصر تركية، تتشكل كخليط بين قوة تأمين عسكرية ومجموعة من الموظفين المدنيين الذين عملوا لسنوات مضت فى مهام تشغيل المطار.
أنقرة وكعادتها لم تقف طويلاً أمام هذا الرفض، وبدأت مبكراً فى العمل على بناء جسور تفاوض التفافية عديدة، من أجل الوصول إلى قبول وتأمين مقترحها الذى ترى فيه أنه يحقق لها حزمة من المكاسب، لا يتصور أنها ستتركها تفلت من يديها بسرعة الرفض الطالبانى الأولى.
وجّه رجب أردوغان الأسبوع الماضى كلمة من «شمال قبرص» بعد أن أدى صلاة العيد فيها، والمكان بحد ذاته يحمل دلالة مهمة، خاصة مع القرارات الجديدة التى أعلن عنها فيما يخص مدينة «فاروشا»، وهى من المناطق المتنازع عليها والمشمولة بالقرارات الأممية، التى جمدت الوضع على ما هو عليه منذ حرب 1974.
حديث الرئيس التركى انصب على ضرورة البدء فى استغلال البنية السياحية التحتية لمناطق تقع ضمن حدود ما يُسمى بـ«جمهورية شمال قبرص» وهى الكيان الذى لا يعترف به فى العالم أجمع سوى الدولة التركية وحدها. المهم أن «أردوغان» لم يفلت المناسبة والمكان دون أن يتطرق لمخططاته المتعلقة بأفغانستان، بوضوح تحدث معلناً عزم تركيا فتح حوار مع «طالبان»، رغم انزعاج الأخيرة من الخطط التركية، التى يستند «أردوغان» فى تحقيقها على الإسناد الأمريكى فى حال موافقتها على بعض مطالبه ذات الارتباط.
دلالة اختيار الرئيس التركى لـ«شمال قبرص» كى تكون المنصة التى يقف منها، طارحاً هذا المشروع، رغم ما ينتظره من تعقيدات جيواستراتيجية واسعة، رغبته فى التلويح بقدرة أنقرة على الانخراط فى مشكلات معقدة لها امتداد زمنى مفتوح، كما هو الحال فى الجزيرة القبرصية التى تقارب عمر قضيتها 50 عاماً، مرت دون كلل أو تراجع تركى أمام شبكة الارتباطات العالقة بهذه المساحة الصغيرة. والمقاربة التركية هنا طرف منها موجّه إلى «طالبان»، بدعوتها للحوار مع تركيا فهى قبلاً جلست مع الولايات المتحدة، وهو يرى فى نفسه المهارة التى ستمكنه من صياغة بعض المصالح المشتركة التى قد تجمعه، مع الحركة الأصولية المتشددة القادمة بقوة للسيطرة على مقاليد السلطة فى أفغانستان لعقود على الأقل، وهنا قد يكون الظهير التركى قادراً على تأمين هذه القبضة المتوقعة فى حال تفهم ورضا الحركة على قيام أنقرة بهذا الدور.
ومن طرف خفى آخر تحدث عن مشروعه الأفغانى كونه «مهمة»، يرى أن واشنطن فى احتياج لمهاراته المكتسبة كى يستثمرها لصالح الحلف الغربى بقيادتها، وسط تنافس جيواستراتيجى ساخن فى تلك المنطقة التى تعج باللاعبين، لذلك وضع الحليف التركى ثلاثة متطلبات أساسية يلزم الولايات المتحدة توفيرها له من أجل الوفاء بالمهمة الافتراضية الممتدة، أولها سيرتبط بالمجال الدبلوماسى والعلاقات الدولية وانتظار دعم أمريكى كامل يكتسح أمامه كافة العقبات المتوقعة. والشرط الثانى حدده الرئيس التركى بالدعم المالى الذى يشمل فى تفاصيله تحمل «كامل» نفقات هذا الوجود، المخطط له أن يبدأ بمطار كابول ومن ثم تتقرر تمدداته بحسب مسار الأحداث المستقبلية.
أما الشرط الثالث الذى وضعه تحت إطار «الدعم اللوجيستى»، فهو يفتح له أبواب استخدام إمكانيات «حلف الناتو» على مصراعيها ينهل منها ما يشاء، وتدعم ارتكازات قواته العسكرية المتخيلة فى فضاء خريطة آسيا الوسطى وما يحيط بالأراضى الأفغانية.
على جانب آخر لا يقل سخونة وتأهباً عن المشروع التركى، بل ربما يفوقه جاهزية لانخراط أوسع، ويتقدم بميزة الجوار الجغرافى الذى يضع إيران فى حدود مشتركة مع أفغانستان تبلغ 950 كم.
ظل التماس الإيرانى مع أحداث أفغانستان عبرها حاضراً خلال فصول تاريخية امتدت لعقود وأحداث مضت، حيث تعتبر نفسها وفق عقيدة نظام الحكم فى طهران أنها راعية لـ«الشيعة الأفغان»، الذين يمثلون نسبة تتجاوز ربع عدد السكان، وهناك من يصل بهم لنحو 30% ينتمى أغلبهم للطائفة «الإثنى عشرية»، المهيمنة على الحكم فى إيران.
وقد تطورت تلك الرعاية إلى الاستخدام المباشر خلال العقد الماضى، حين قام «الحرس الثورى» الإيرانى بتأسيس ما يعرف بـ«لواء الفاطميين» وتم الزج به للقتال فى سوريا بداية من العام 2012، ويتكوّن اللواء من مقاتلين أفغان جرى تجنيدهم من أبناء الطائفة الشيعية، وحظى القادة منهم بتدريبات نوعية فى معسكرات الحرس المتقدمة بداخل إيران.
مدينة «هرات» الشهيرة تمثل معقل النفوذ الإيرانى، وتعد الثانية فى الأهمية بعد كابول العاصمة، ومنها يمكن للاختراق الإيرانى أن ينفذ بصورة مؤثرة فى الأحداث القادمة، رغم ما يكتنف السلوك الإيرانى من غموض حتى الآن، لكن المراقب للتحركات العسكرية للقوات الإيرانية فى منطقة الحدود المشتركة، يلحظ بسهولة حالة زخم استثنائى تجرى منذ بدأت قوات الطالبان فى الاستحواذ على الولايات الأفغانية تباعاً. فهناك مؤخراً أرتال من معدات «الحرس الثورى» التى تشمل المدرعات وناقلات الجنود وأنظمة المراقبة ومنظومات الصواريخ المتوسطة، انتشرت هناك بصورة كبيرة تزامناً مع استيلاء «طالبان» على أول مدينتين شيعيتين فى محافظة «باميان» خلال هذا الشهر.
ورغم تأكيد تقارير استخباراتية أن طهران رفعت أيضاً درجة الاستعداد القصوى فى الأسراب الجوية، التابعة للجيش والمكلفة بحماية المنطقة الحدودية، إلا أن خيار التدخل العسكرى الإيرانى رغم هذا الاحتشاد الملحوظ لا يحتل أولوية لاعتبارات عدة، أهمها أن الخطط الإيرانية المتعلقة بمستقبل أفغانستان تنطوى على العديد من الطبقات الأعمق، التى تستهدف حماية مصالح الشيعة وضمان تمثيلهم فى الحكم القادم، عبر إيقاظ المشتركات ما بين الحكم الدينى «السنى» الطالبانى و«الشيعى» الخاضع لولاية الفقيه الإيرانى.
فالأخيرة تعى جيداً أن الحصاد الاقتصادى المحمى بالنفوذ، الذى قد تتشاركه مع قوى عظمى أخرى، أكثر نفعاً وربحاً من مواجهات السلاح الخشنة ومتاهات الجغرافيا، التى ستدفع المنافسين إلى الاصطفاف فى مواجهتها كما هو الحال فى ساحات أخرى شبيهة.