حددت سورة البقرة مفهوم الأمم فى القرآن تحديداً لا لبس فيه، وتكاد تضع قاموساً جديداً للإنسانية وعلم الإنسانيات الأنثروبولوجية فى أن تصنيف الأمم عند الله ليس بألوان الجلد أبيض وأسود، ولا بالعلم جاهل ومتعلم، ولا بالعمل صانع وصائغ، وإنما بتعبير غريب جداً محسوم لا نقاش فيه فى أمم ما بعد نوح، وهى «أمة إبراهيم» التى بدأت به وانتهت بيعقوب كما فى الآيتين 132، 133 من سورة البقرة (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، حيث إن يعقوب وهو يحتضر لم يسألهم عن المال والميراث، فقط سأل عن ديانتهم وإيمانهم، وهنا يُحسم أمر النقاش فى تعبير «المسلمين»: هم أصحاب الديانات السابقة واللاحقة وآخرها اليهودية والمسيحية والإسلام، يعاملها القرآن على أنها ديانة واحدة هى الديانة الإبراهيمية، ومع ذلك فقد فصل القرآن هذه الأمة الإسلامية عما بعدها من ديانات ورسل، فقال حاسماً فى الآية 134(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)،وانتهى دور هذه الأمة بالنسبة للقرآن، وتلتها أمة أخرى هى الأمة الثانية فى الآيتين 135، 136 وضمت اليهود والنصارى (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، أى كل الأنبياء الذين لم تُذكر أسماؤهم هنا لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. هنا التسمية لكل الديانات «مسلمون»، ثم ينفى عن كل أنبياء آل إبراهيم وحتى الأسباط أنهم يهود أو نصارى، آية 140 البقرة (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). ومع ذلك كل الأمم التى وردت فى الأمة الثانية لها ديانتها ولا يُسألون عما كانوا يعملون بمقياس الإسلام، فهو ليس مطلوباً للتطبيق عليهم لأنهم أمة مختلفة عن المسلمين، وهم من الأمة الثانية التى قالت فيها الآية ١٤١ سورة البقرة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وتبقى الأمة الثالثة وهى الأمة الإسلامية، والتى جاء تعريفها واضحاً فى الآية ١٤3 من سورة البقرة (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، أى تجمع الوسطية فى كل الديانات السابقة، وهى سهلة فى عقيدتها بشهادة التوحيد، وسهلة فى صلاتها: أينما تصلوا فثم وجه الله، وجُعلت الأرض لى مسجداً، وسهلة فى حدودها وأحكامها لولا تشدد المتشددين وتعصب المتعصبين.
تعريف الوسطية هنا يقبل عدة احتمالات، الاحتمال الأول أنها أمة تقيم فى أوسط العالم وأن مكة المكرمة والبيت الحرام هو، كما يتردد، فى وسط الكرة الأرضية وإلا لماذا كانت الآية ١٤٣ تتحدث عن وسطية الأمة، والآية ١٤٤ التالية لها مباشرة (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الذى هو فى الإقليم الأوسط من العالم الذى سُمى بعد ذلك الشرق الأوسط؟ والغريب إصرار الآية ١٤٤ أن الذين أوتوا الكتاب، أى اليهود والنصارى، يعلمون أنه الحق من ربهم، أى يعلمون أن الإسلام دين سماوى مثل اليهودية والمسيحية، ويعلمون أن قبلتهم للكعبة تصلح لهم من أن يصلوا تجاه موقع المسجد الأقصى الذى يتوجه له اليهود والمسيحيون، اليهود لهيكل سليمان حيث موقع عبادته هو وداود والمسيحيون لكنيسة القيامة حيث وجدوا ملابس عيسى وصليبه ملطخاً بالدماء. ثم تؤكد سورة البقرة أن اختلاف الديانات واختلاف القبلة هو أمر إلهى قرر لكل أمة صلاتها وقبلتها محذراً من اتباع أحد أصحاب الديانات قبلة غير قبلته، أى أن القرآن يقول للمسيحى تمسّك بكنيستك ويقول لليهودى تمسّك بكنيسك ويقول للمسلم تمسّك بمسجدك، الآية ١٤٥ البقرة (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ).
والغريب أن القرآن فرض على المسلمين حماية دور العبادة اليهودية والمسيحية كما يحمون دور العبادة الإسلامية، آية 40 الحج: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ)، وهنا خصص دور العبادة بالحماية بالترتيب، أولها الصوامع وهى كنيس اليهود، والبيع والصلوات مكانان للمسيحيين، معترفاً بأن هناك مكانين للعبادة: الكنيسة التى يعتادها الناس، والصلاية أى القلاية بالتعبير المسيحى وهى مكان الرهبنة، حيث اعترف القرآن بالرهبانية (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أى يشجعهم الله للاستمرار فيها والالتزام بطقوسها القاسية، ثم تأتى المساجد آخر دور العبادة.