بداية تجدر الإشارة إلى أن مضمون هذا المقال نشر عدة مرات منذ العام 2008، تحت حكام متعددين ومختلفين، ادعاء، وفى مواقع وصحف مختلفة. إلا أنه «لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادى، وناراً لو نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ فى رماد». وفى هذا مؤشر قوى على أن التوجهات المجتمعية للحكم التسلطى فى مصر، لم تتغير منذ ما قبل اندلاع الثورة الشعبية العظيمة فى يناير 2011 وحتى الآن. وما دامت التشكيلة المجتمعية الحاكمة التى تتوسل الاستبداد والفساد قائمة، فلن يقام العدل حتى ينصلح حال المصريين، وعليه لن تقوم لمصر قائمة.
لقد زعم السيد الرئيس أن رفع أسعار مواد الوقود كان الحل الوحيد لخفض عجز الموازنة، وتصرف هو ووزارته على هذا الأساس غير عابئين بالظلم الفادح الذى أصابوا به عامة المصريين من المستضعفين المطحونين أصلاً بالفقر والغلاء الجامح، ناهيك عن القهر وخنق الحريات.
على العكس، فى نظرى، يكمن مفتاح تدبير الموارد اللازمة لإصحاح الاقتصاد ولإقامة العدل فى مصر فى إيقاف أنماط الإنفاق العام وقرارات الحكم التسلطى التى تحرف استغلال موارد البلد وتخصيصها، عن غاية إقامة العدل، وإعادتها إلى الغاية الأصيل للحكم، أى منع الظلم وإقامة العدل، دونما حاجة إلى الاقتراض من الخارج، ناهيك عن الاستجداء المخزى.
وأقدم فيما يلى مجموعة من المقترحات التى تكفل خفض عجز الموازنة وتدبير موارد بديلة للاستجداء والاستدانة، وتمثل فى حد ذاتها مداخل لإقامة العدل ولضمان حكم مؤسسى صالح فى الوقت نفسه.
المدخل الرئيسى هو إيقاف جميع أشكال الترف والبذخ فى الإنفاق العام والخاص، ولا ريب أن عامة الشعب يمكن أن يتحمل شظف العيش أطول إن تأكد من تقشف السلطة فى التصرف فى أموال الشعب وحسن توظيفها وأنها جادة فى العمل على ضمان العدالة الاجتماعية.
ونقصد التبذير من قبيل شراء السيارات الفارهة الحديثة، ليس فقط للوزراء، بل لمساعديهم ومستشاريهم بمن فيهم من تركوا الخدمة فى حالات، والإنفاق على تجديد وتزيين القصور الرئاسية، بدلاً من العمل على بيعها أو تحويلها لمتاحف تدعم السياحة وتدر دخلاً لتدبير موارد إضافية لخزينة الدولة التى أفرغها سوء الحكم، أو تحويلها لمتاحف، وتوجيه كل الموارد التى تتوافر من ترشيد الإنفاق لصندوق لتنمية الاقتصاد إنتاجياً ولإقامة العدالة الاجتماعية عبر سبل شفافة، ميسَّرة وفعالة. ويمكن لى أن أعدد قرابة عشرين من المقترحات المحددة تنفيذاً لهذه المبادئ العامة.
أولاً: القضاء على التبذير والإسراف الحكومى
1- بيع القصور والاستراحات الرئاسية والأراضى المحيطة بها لشركات فندقة لتحويلها لفنادق فاخرة للسياح الأثرياء، ما يمكن أن يعطى دفعة ضخمة لنشاط السياحة مرتفعة العوائد، والاكتفاء بمقر رئاسى واحد للمناسبات الرسمية. إن عائد بيع خمسة قصور رئاسية فقط كان يمكن أن يتيح أكثر من حصيلة رفع أسعار الوقود التى أضرت بغالبية الشعب.
2- الاستغناء عن أساطيل السيارات الحكومية الفاخرة لإلحاقها بتلك الفنادق الفاخرة والاكتفاء بسيارة واحدة متواضعة لكل مسئول يدفع مقابل استخدامها أثناء الخدمة رسماً يخصم من راتبه.
3- إغلاق عدد من السفارات المصرية والاكتفاء بسفارات فقط فى الدول التى لمصر بها مصالح حيوية أو جاليات مصرية كبيرة. فلا يعقل أن يكون لحكومة مصر، الغارقة فى الاستدانة -من الشعب ومن الخارج- سفارات مكلفة فى جميع دول العالم تقريباً بينما ليس للولايات المتحدة -بجلال قدرها- إلا أقل من نصف هذا العدد.
4- خفض عدد العاملين بأجهزة الأمن إلى النصف أو أقل، بإعادة هيكلة أجهزة الأمن لتصبح أقل عدداً ولكن أعلى كفاءة فى صيانة أمن المواطنين وحقوقهم، تحت الإشراف الكامل للقضاء المستقل تماماً، مع إتاحة التدريب التحويلى الملائم لتوظيف من يرغب، ويصلح منهم، بمجالات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعى. وإجراء خفض مواز لمخصصات أجهزة الأمن لصالح زيادة مخصصات التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعى. ولا يصح التعلل بأن هذا الخفض فى المال والرجال سينتقص من الأمن فى البلد. فالإسراف فى الإنفاق والرجال والعتاد لا يحقق الآن أمناً تاماً كما يعلم الجميع، ولا يمنع أحداث عنف أو إرهاب للمواطنين. إن قلة العدد مع الكفاءة التى تنتج عن التنظيم الجيد والإدارة السليمة بالتأكيد أفضل من الوضع الراهن. وتكفى هنا المقارنة بحالة الصين التى يقل تعداد قوى الأمن المدنى فيها عن مصر حالياً بينما يتجاوز تعداد سكانها خمسة عشر مثلاً سكان مصر.
5- إيقاف التمويل الباذخ لفرق كرة القدم التى تمولها الوزارات والقوات المسلحة والشرطة، والتى يجب بيعها إن وجدت مشترياً وإلا فلتتوقف.
6- إنهاء عوار «الصناديق الخاصة» التى كانت، وما زالت، مرتعاً للفساد، وضمها لميزانية الدولة وإخضاعها لأجهزة الرقابة المالية. والمؤسف حقاً أن السلطة الحالية تتوسع فى نقيصة الصناديق الخاصة هذه، توسعاً ضخماً ومريباً.