جلس يحكى عن الفساد الذى ملأ الحياة، مؤكداً أن أبسط الخدمات لا يمكن الحصول عليها دون دفع رشوة. لم أحاول المقاطعة وتركته يحكى، فقال لى إنه ذهب لتجديد رخصة القيادة الخاصة به، وفى أثناء الكشف الطبى الخاص بالنظر، سأله المختص إن كان يرتدى نظارة طبية؟ فأكد له أنه يرتدى نظارة ولكنه لم يحضرها معه. فقال له المختص إنه لن يتمكن من توقيع الشهادة بكلمة «لائق» إلا إذا أحضر النظارة. وعندما خرج التقى أحد موظفى الوحدة المرورية، فسأله عما إذا كان يحتاج أى تسهيلات لإنهاء مهمته!! فحكى له زميلى عما حدث فى كشف النظر، فأخذه الموظف واستخرج له الرخصة دون الحصول على ورقة الكشف الطبى مقابل مبلغ 500 جنيه! وختم حديثه بسؤال لى: «شفت فساد أكتر من كده؟!».
نظرت له وأنا لا أعرف هل أحزن على سوء الفهم وغياب البصيرة فى تحديد المفاهيم واختيار أساليب التعامل مع المواقف؟ أم أضحك على تلك الكوميديا العبثية؟ خرجت عن حالة دهشتى وسألت زميلى بهدوء: «مَن الفاسد هنا فى هذا الموقف؟»، فأجابنى بثقة متناهية: «الموظفون فى الوحدة كلهم فسدة، فالمختص فى كشف النظر أصر على إحضار النظارة وكان من الممكن أن يتغاضى عنها (ويمشّيها)، والموظف أنهى الورق برشوة رغم أنه قادر على استخراج الرخصة بشكل رسمى!».
سألته مجدداً: «وأنت.. ما هو إعرابك فى هذه الجملة الفاسدة؟ برىء ومظلوم ومجبر؟»، فردّ بثقة أكثر: «طبعاً»!! فقلت له إنه هو من فتح باب الفساد حينما رفض إحضار النظارة لأن المختص لم يفعل غير أداء مهمته على أكمل وجه حينما طلب أن يكشف على بصره وهو يرتدى النظارة لأنه سيقود سيارة قد يعرّض بها نفسه أو غيره للهلاك إن لم يكن قادراً على إبصار الطريق. وكيف أنه كرر الفساد مرة أخرى مع من فتح له باب الغواية لإنهاء المصلحة بـ500 جنيه، وكان من الممكن أن يرفض ويذهب لإحضار النظارة، فهو من قبل دعم الفساد والسير فى طريقه. ولولا قبوله هذا الإغراء المقترن بإنهاء المصلحة، لما اشتكى الفساد الآن.
تخيلت أنه سيعيد التفكير فى الموقف، ولكنه قال لى بتعالٍ وكأن المشكلة فى فهمى إنه لو لم يدفع فسوف يدفع غيره ويستمر الفساد!!
أدركت عقم النقاش معه فصمتُّ وانصرف، وجلست أفكر فى الموقف الذى يمارسه الكثيرون وهم يشكون من الفساد وسنينه وأيامه ولياليه، وكيف أنه توحّش وفرض نفسه حتى فى أبسط المواقف، بينما هم مَن يفتحون الباب لاستقبال الفاسد بصمتهم عليه وقبولهم لعروضه. ربما سيتعبون أكثر أو سيواجهون بعضاً من مصاعب، ولكن لا قضاء على الفساد إلا برفض كل أبوابه المغرية.
نعم.. أدرك تجذر الفساد فى بلادى عبر ثقافة أدمنت الأخذ بمسميات عدة لتبرر لنفسها الحصول على القرش الحرام، فهذا شاى، وهذا عرق، وهذا لزوم تخليص المصلحة.. وهذا على قد فلوسهم.. و.. و..
كما أتذكر مقولة الفنان الراقى نجيب الريحانى فى فيلم «أبوحلموس»، «الشىء لزوم الشىء» التى توضح تجذر الفساد فى بيروقراطية المال السايب، ولكننى ما زلت أرى شرفاء يرضون ببركة القليل الحلال رغم الإغراء.