فى رحلة العمل الطويلة كنت دائم البحث فيها عن نظام محلى يليق بمصر على مدى أكثر من عشرين عاماً قضيتها فى جميع المناصب القيادية بالإدارة المحلية، سافرت خلالها ودرست وتعلمت وتأكدت أن السبيل الوحيدة لعمل نهضة حقيقية لمصر هى إصلاح حال المحليات وتحديد الاختصاصات والمسئوليات والصلاحيات ومنع التشابكات والتداخلات بين المحافظات المحلية والوزارات المركزية فقد أصبح واضحاً الآن أن التأخير أكثر من ذلك فى عملية الإصلاح وخلق نظام محلى محترم ومؤسسات محلية تليق بمصر سوف يتسبب فى كارثة محلية كبيرة وتصدير أزمات كثيرة للدولة وإحباطات اجتماعية للمواطنين فى المحافظات وعدم ثقة فى الحكومة والإساءة إليها نتيجة تصرفات منفردة من بعض المسئولين دون مراعاة للوضع الاجتماعى وعدم الفهم للقوانين المحلية وفلسفة الإدارة المحلية التى تراعى طبيعة كل محافظة فى ظل وجود مجلس محلى يمثل كل قرية ومركز ومدينة.وقد يتسبب التأخير فى الإصلاح أيضاً فى الإهمال وضياع الكثير من الإنجازات العظيمة التى تنفذها الدولة.إن إصلاح المحليات يحتاج إلى سرعة صدور قانون محلى قوى يساعد فى بناء نظام محلى محترم يطبق اللامركزية ويمنع التشابكات وتعدد الولايات ويكون داعماً لصلاحيات المحافظ التى تم الاستيلاء عليها بفعل فاعل فى غفلة من الزمن لصالح أصحاب المصالح والمنتفعين، كما يحتاج الإصلاح إلى اختيار مجلس محلى محترم قادر على الرقابة والمساءلة والمتابعة والتشريع المحلىوقد طالبت بذلك كثيراً منذ أن كنت الأمين العام للإدارة المحلية فى مصر.وتأكد الآن الاحتياج إلى ضرورة منع التشابكات وتعدد الولايات بعد صدور قرار وزارة التربية والتعليم بمنع تسليم الكتب لمن لم يسدد المصروفات وما سبّبه ذلك من أزمات اجتماعية ولغط كثير، وهو بالمناسبة قرار متكرر وقديم قدم الموظفين البيروقراطيين الموجودين فى وزارة التعليم يصدِّرون به أزمات للوزارة وللمواطنين فى المحافظات، رغم أن مثل هذه القرارات ليست من اختصاص الوزارة إنما هى حق أصيل للمحافظ.فعندما كان النظام المحلى محترماً ومكتمل الأركان يلتزم فيه الجميع بالقانون وكان لدينا محافظون على درجة كبيرة من الكفاءة والخبرة، لم يكن يؤثر هذا الكلام على محافظاتهم لأن المحافظ رئيس جمهورية المحافظة ومعه مجلس محلى قوى وداعم له من أجل تحقيق مصلحة المواطنين بالعدل والحق والقانون، وقد سبق أن تكرر ذلك فى معظم المحافظات التى عملت بها أثناء رحلة عملى الطويلة كقيادة محلية ولم أجد المحافظات تهتز كما شاهدنا ردود الفعل الآن.وأذكر أيضاً أننى شخصياً وأنا محافظ للقليوبية بعد ثوره 30 يونيو صدر قرار مشابه بربط تسليم الكتب بالمصروفات دون تنسيق، فلم أهتم لعلمى أن مثل هذه القرارات من اختصاص المحافظ وليست من اختصاص الوزير، كما أننى وفور تعيينى محافظاً للقليوبية أنشأت صندوقاً للحالات الإنسانية سبقنا إليه المرحوم الدكتور عبدالرحيم شحاتة محافظ القاهرة المحترم، الذى تعلمت منه الكثير عندما كنت مديراً للمكتب الفنى لمحافظة القاهرة، وجعلت تمويل الصندوق من تبرعات رجال الأعمال ونسبة بسيطة من أرباح المشروعات التى تقيمها المحافظة ويعامل معاملة المال العام، وتكون مهمة الصندوق هى رعاية الحالات الإنسانية والمرضى والمحتاجين وغيرهم ممن كانوا يحصلون على دعم من الإخوان المسلمين لاستقطابهم، وبعد أن تمت إزاحة الإخوان فتحت المحافظة ذراعيها لهم وتمت رعايتهم من المحافظة وتقديم الدعم لهم فعادوا إلى حضن الوطن سريعاً وهدأت المحافظة.لذلك عندما صدرت تعليمات الوزارة بوقف تسليم الكتب كنت قد سبقت هذه التعليمات بما لى من صلاحيات وأصدرت تعليماتى لكل أجهزة المحافظة بأن تقوم بحصر أعداد التلاميذ غير القادرين على سداد المصروفات وأن يتم سدادها بالكامل من صندوق الحالات الإنسانية بالمحافظة دون ضجيج أو إحراج للأسر الفقيرة.. ودون ضياع حق المدرسة فى توفير موارد للصرف منها على الأنشطة وسد العجز فى العمالة.وتكرر نفس الموقف عندما صدرت تعليمات أخرى من الوزارة فى نهاية العام الدراسى بحصر الغياب فى المدارس الفنية وحرمان التلاميذ الذين تعدت أيام غيابهم من دخول الامتحان دون سابق إنذار لهم، وقد رفضت ذلك أيضاً وأصدرت قراراً بدخول جميع الطلاب الامتحانات ويكون النجاح فى الجزء العملى والنظرى هو معيار النجاح مع التشديد على اللجان، ولا أنسى فرحة الأهل بهذا القرار بعد أن كان أكثر من نصف الطلاب معرضين للمنع من دخول الامتحان بتعليمات غير مدروسة تفتق عنها أذهان الموظفين بالوزارات المركزية ويتبناها المسئولون أحياناً دون دراسة أبعادها ودون تنسيق مع المحافظة، رغم أنها اختصاص أصيل للمحافظ ولم تكن أبداً اختصاص الوزير.وكثيراً ما كان يحدث خلاف مع الوزارات المركزية خاصة فى تعيين وإقالة المسئولين فى التعليم والصحة والزراعة وغيرها بالمخالفة للقانون الذى يمنع تعيين أو إقالة أى مدير مديرية أو رئيس حى إلا بالاتفاق مع المحافظ والحصول على موافقته عند تغييره، وهو ما كان غائباً عن الوزارات المركزية وتسبب فى مشكلات كثيرة فى دولاب العمل وانتظامه، وقد كنت دائماً أرفض ذلك تماماً وهو ما تسبب فى مشكلات مع بعض الوزارات ويتقبلها البعض الآخر.فأنا لم أكن أقبل أى تداخل فى الاختصاصات دون سند قانونى والجميع يعلم ذلك، وقد شاهدوه على شاشات التليفزيون عند رفضى الكامل لتدخل الوزارة المركزية فى تخصيص أرض لأحد المعتدين على أرض الدولة فى الإسكندرية بالمخالفة للقانون ورفضى ما قامت به الوزارة من إحالة بعض المسئولين بالمحافظة إلى النيابة بناء على دراسة أعدتها الوزارة من طرف واحد ودون التنسيق مع المحافظة، لأن ذلك مخالف للقانون ويعتبر سابقة خطيرة قد تتسبب فى ضياع أملاك وحقوق كثيرة للدولة، وقد أيدت المحكمة حق المحافظة فى الأرض كما أثنت المحكمة على المسئولين الذين التزموا بتعليمات المحافظ بدلاً من محاكمتهم كما طلبت الوزارة المركزية.وقد رفضت أيضاً محاولات التدخل من الوزارة المركزية فى منع تحصيل حق الدولة فى الحديقة الدولية والبالغ أكثر من مليار جنيه فى حينه بحجة تشجيع الاستثمار وكان الرفض حفاظاً على حقوق الدولة الثابتة قانوناً، وتم تأكد هذا الحق بمعرفة جميع الجهات التى تابعت ودرست.وتعانى المحافظات كثيراً وهى تمنع هذه التدخلات التى لا مجال للحديث عنها الآن والتى تحتاج إلى سرعة وضع حد لمنع هذه التشابكات والتداخل فى الاختصاصات مع تحديد الصلاحيات ومساءلة المحافظ إذا أخطأ.فكم محافظ رفض وكم محافظ قبل مثل هذه التعليمات فى ظل عدم الوضوح وعدم الخبرة وعدم وجود مجلس محلى يراقب ويحاسب ويتابع، وعلينا جميعاً كمسئولين أن نعى كل ذلك جيداً ونستفيد من الخبرات السابقة ونلتزم بالقانون وبالاختصاصات والمسئوليات حتى لا تقع المحافظات فى مخالفات قانونية بحسن نية قد تتسبب بعد ذلك فى أزمات اجتماعية بسبب عدم وضوح القانون المحلى عند بعض المسئولين وسوء فهمهم للقانون أحياناً أخرى.وقد أصبح الحل الوحيد الآن لفض كل هذه التشابكات والتداخلات هو صدور قانون محلى محترم يليق بمصر ويرسخ للامركزية ويخلق نظاماً محلياً ويساعد فى اختيار مجلس محلى محترم، مع العمل على بناء مؤسسات محلية قادرة على إعمال القانون على الجميع وتقديم خدمات أفضل للمواطنين دون تدخلات أو تشابكات.ربنا يحفظ مصر، ويوفق الرئيس فى إصلاح ما أفسده الكثيرون.
محافظ القليوبية والإسكندرية الأسبق