لو أدرك كل ممنوح للسلطة والنفوذ ورأى بعين اليقين نهاية الحياة ربما تغيرت حياة البشر على سطح كوكبنا. هكذا يراودك الفكر وأنت تسمع خبر وفاة «كولن باول» وزير الخارجية الأمريكى السابق فى عهد الرئيس «جورج دبليو بوش» عن عمر يناهز 84 عاماً بعد إصابته بفيروس كورونا.
سارعت وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية الأمريكية إلى عرض قصة حياة الرجل الذى وصفته الـ«سى إن إن» بأنه «قائد وطنى». مسيرة حياة بها الكثير من المثابرة والكثير من الغموض لمراحل لم يُعلم كيف مر بها. فـ«باول» الذى جاء مهاجراً مع أبويه للولايات المتحدة الأمريكية من جامايكا وعاش حياة الفقر فى طفولته وصباه، ولم يتميز فى دراسته، حتى التحاقه بجامعة نيويورك لدراسة الجيولوجيا، ولم يلتحق بكلية عسكرية، اختار الحياة العسكرية فتميز فيها وشارك فى حرب فيتنام.
تتوقف وأنت تتابع مسيرته عند محطة حصوله على زمالة مكَّنته من العمل فى مكتب الإدارة والميزانية بالبيت الأبيض فى عهد نيكسون عام 1972، وبخاصة أنها لا تمت بصلة لمجال عمله فى العسكرية ولا لتخصصه الدراسى! ولكنه يعود مجدداً للعمل فى الجيش الأمريكى ويتدرج فيه حتى رتبة «جنرال»، لتكون بعدها العودة مجدداً للبيت الأبيض عام 1987 كمستشار للأمن القومى الأمريكى فى عهد الرئيس جورج بوش الأب! الذى يعينه فى العام 1989 رئيساً للأركان فى الجيش الأمريكى وليكون أول أمريكى من أصول ملونة يشغل هذا المنصب. ويكون من يتولى زمام القوات المسلحة فى حرب الخليج الثانية عندما احتل صدام حسين الكويت فى أغسطس 1990.
عندما سُئل الجنرال «باول» فى يناير من عام 1991 عن استراتيجيته لمواجهة الجيش العراقى فى الكويت، قال فى تصريحات تليفزيونية: «استراتيجيتنا فى ملاحقة هذا الجيش أن نحاصره وبعد ذلك نقضى عليه». تدرك من تلك الجملة أن الهدف لم يكن تحرير الكويت أو إخراج الجيش العراقى منها، بل القضاء عليه من قبل أمريكا التى حاصرت العراق كلها منذ العام 1991 حتى غزوها فى العام 2003 بحجة امتلاكها أسلحة دمار شامل تهدد العالم! وللعجب كان «باول» وقتها وزير خارجية الولايات المتحدة مع الرئيس جورج دبليو بوش الابن!
ما زالت ذاكرة المشاهد التليفزيونية تحتفظ لـ«باول» بحديثه فى مجلس الأمن بالأمم المتحدة فى عام 2003 وهو يمسك بيده أنبوب معمل صغيراً استعمله كدليل على امتلاك بلاده معلومات مخابراتية مؤكدة عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، مبرراً التدخل العسكرى بقيادة بلاده فى العراق لإزاحة نظام صدام حسين وهو ما كان، لتستمر الحرب سنوات وتخرج بعدها واشنطن ولندن ويعلنان للعالم أنهما أخطأتا وأنه لم يكن فى العراق أى سلاح نووى خطير! بعد أن تركتا العراق فى دمار شامل وبعد أن تم تسريح الجيش العراقى عام 2004.
ويعلن «باول» أن موقفه وتصريحاته عن وجود سلاح نووى فى العراق كان وصمة عار فى تاريخه!
ولكن الاعتراف بالعار لم يكن ليمحو الوصمة التى تحدث عنها «باول» فى ظل مقتل أكثر من نصف مليون عراقى بين طفل وامرأة وشيخ فى التسعينات فى ظل الحصار. ومنذ أيام كان الرحيل لعالم الحساب على الأخطاء ووصمات العار التى لا تمحى.