«لا أحبك.. ولا أقدر على بعدك».. ربما كان هذا المثل هو الأقدر على وصف علاقة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بوسائل الإعلام.
فمن ينظر إلى آراء ترامب وتصريحاته عن وسائل الإعلام سواء كانت «تقليدية» أو «جديدة»، يعتقد أن هذا الرجل يكره عالم الإعلام، ويحتقر العاملين فيه، بل ويتهمهم بأنهم «أعداء الشعب».
لكن من جانب آخر، سيمكننا أن نرصد حباً وولعاً شديدين من جانب ترامب بعالم الإعلام؛ وهو ولع لم يطرأ عليه أخيراً حين دخل مجال السياسة، لكنه رافقه منذ شبابه، وحين كان رجل أعمال، أو منتجاً تليفزيونياً، أو حتى كومبارس فى بعض الأعمال السينمائية.
نعم.. لقد ظهر تعلق ترامب الكبير بعالم وسائل الإعلام المختلفة فى وقت مبكر، وهو لم يتوقف عن توسله هذه الوسائل وسعيه للتموضع الإيجابى عبرها يوماً واحداً، وكل ما ظهر من عداوات وخلافات بين الجانبين لم يحدث إلا بسبب أن ترامب وجد صورته الإعلامية على نحو لا يناسبه ولا يلبى طموحه فى كثير من المعالجات.
ثمة مئات الأدلة على أن ترامب أهان عالم الإعلام وأساء إليه ووصفه بأشنع الاتهامات، وثمة مئات الأدلة فى المقابل على أن ترامب يعشق الإعلام ويتمنى ألا تنقطع أخباره عنه ساعة واحدة، أما آخر دليل فى هذا الصدد، فليس سوى أن الرئيس الأمريكى السابق قرر أن يُطلق منصة «تواصل اجتماعى» جديدة، ليواجه بها حظر وتقييد ظهوره على المنصات الرائجة.
ففى الأسبوع الماضى، أعلن ترامب عن إطلاق منصة «تواصل اجتماعى» تحمل اسم «تروث سوشيال»، قائلاً إنها ستقف فى وجه «تعسف عمالقة التكنولوجيا»، الذين اتهمهم بإسكات الأصوات المعارضة فى الولايات المتحدة.
ورغم أن النقاد والخبراء فى هذا المجال يقللون من احتمالية أن تنجح منصة «تروث سوشيال» المعلن عن إطلاقها فى التمركز فى عالم وسائل «التواصل الاجتماعى»، والفوز بحصة مهمة من الجمهور فى مواجهة أباطرة متمركزين تمركزاً جيداً مثل «فيس بوك» و«تويتر» وغيرهما، فإن هؤلاء الخبراء يعتقدون أن النزعة السياسية التى تمثلها المنصة، والحس المحافظ الذى ترتكز إليه، والدعم الذى يحظى به ترامب فى أوساط بعض الجمهوريين فى البلاد، كلها عوامل يمكن أن تؤمّن لها قدراً من النجاح.
لقد لعبت وسائل «التواصل الاجتماعى» تحديداً دوراً مهماً فى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وكانت وسيلته المفضلة للتواصل الرئاسى، حتى إنه قال فى عام 2017: «لولا (تويتر) ما وصلت إلى الحكم»، لكن مع ذلك فإن هذا الأخير حظره، بينما علق «فيس بوك» حسابه بعد أن داهم مناصروه مقر الكونجرس، اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
وكانت تلك المنصات قد واجهت ضغوطاً خلال فترة رئاسة ترامب من أجل حظره، حيث اعتبرت منشوراته «تحريضية ومهينة أو مروجة للمحتوى الزائف».
على أى حال، فأنا لست من مؤيدى الرئيس السابق ترامب، وأتفق مع كثيرين ممن رأوا أن وجوده على رأس أقوى دولة فى العالم يمكن أن يسبّب مشكلات خطيرة وأن يضر بالاستقرار والسلم العالميين، ومع ذلك فإننى عارضت بشدة حظر حساباته على مواقع «التواصل الاجتماعى».
إن حرية الرأى والتعبير مفهوم جوهرى وأساسى، وهو جدير بأن ندافع عنه بكل قوة، لكن السبب فى معارضة حظر حسابات ترامب على «السوشيال ميديا» لا يعود إلى ذلك المبدأ، وإنما يرجع إلى اعتبارات أخرى تتصل أولاً بنطاق صلاحيات تلك الوسائط المفترض، وتتعلق ثانياً بطبيعة جديدة اكتسبتها وباتت من خلالها آليات اتصال حكومى متكاملة الأركان.
ليست مواقع ما يسمى بـ«التواصل الاجتماعى» مجرد مواقع «تواصل اجتماعى»؛ فهى غدت منصات أعمال، ومنابر للنقاش العمومى، وأداة لتعزيز حظوظ المتنافسين فى الانتخابات العامة أو تقليص فرصهم، والأهم من ذلك أنها تلعب دوراً رئيسياً فى حمل رسائل السياسيين والقادة، والتواصل فى ما بينهم وبين مجتمعاتهم ونظرائهم.
إن منع تغريدات ترامب ومحاصرته، بينما هو رئيس دولة، أو منافس فى الانتخابات الرئاسية، على تلك المنصات عمل غير محسوب؛ وهو يشير إلى دور جديد لتلك المنصات، وسلطة جديدة قررتها لنفسها، وقابلية كبيرة لأن تكون أداة مغرضة فى صراعات السياسة.
لا يمكن غل أيدى القادة الشرعيين والحكومات والمتنافسين السياسيين عبر الانتخابات فى مجتمع ديمقراطى عن استخدام تلك المنصات، ولا يجب معاملتهم كمستخدمين عاديين، ولا يجب منعهم من التعبير واتخاذ القرارات ومخاطبة الجمهور، ولا يجدر أن يكون هذا المنع انتقائياً وباستخدام المكاييل المتعددة.
ولعل ما ظهر لاحقاً من أنباء عن قيام «فيس بوك» بإرساء معايير خاصة بالمشاهير وعدم تطبيق بعض القواعد عليهم بالنظر إلى موقعهم النخبوى يشير إلى إدراكه للطبيعة الخاصة لبعض المتفاعلين عبره.
ولمجمل هذه الأسباب لم يجد ترامب بُداً من إطلاق تعبيره الخاص ومنصته الخاصة لكى يصبح حراً فى مخاطبة جمهوره والعالم، بعدما ضيّق عليه الفاعلون الإعلاميون الحاليون المجال.
يحب ترامب الإعلام ولا يطيق فراقه، حتى إنه سيمتلك منصة إعلامية، وقريباً جداً سنعرف إذا ما كان خصومه سيتركون له المجال لكى يطلق تلك المنصة، وسنعرف أيضاً إذا ما كانت ستنجح أم سيكون حظها مثل حظه فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ورغم أن «ترامب» يمثل جانباً ملغوماً ومثيراً للجدل فى السياسة الأمريكية، ورغم أن كثيراً مما يقوله عنصرى وغير مدروس، فإن من حقه الكلام.