النقطة الثالثة، أن مرور الزمن، وتغير الكون من حولنا، قد أصاب بعضاً من الآثار الإيجابية لحرب أكتوبر بالوهن. واسمحوا لى أن أذكر مجالين.
فبعد استعادة ما سلب العدوان، كان السلام من أهم غايات حرب أكتوبر السياسية. ويقينى أن مصر، رغم المعاهدة، لا يمكن أن تنعم بسلام حقيقى والمنطقة على فوهة بركان يحرك أتونه الطرف الإسرائيلى، المغتصب لأرض وحقوق عربية، بصلف تزين له القوة الغاشمة، وضعف العرب، ومساندة غير مشروطة من قيادة العالم الجديد، دون خجل من التشدق بالمثل السامية.
وفى مجال آخر، ترتب على حرب أكتوبر، والموقف العربى الموحد فى حظر تصدير النفط، أن ارتفعت أسعاره بقفزتين ضخمتين عامى 1973 و1979 بحيث حصل العرب، ومنتجو النفط عامة، لأول مرة، على سعر معقول لاستنضاب ثروتهم الطبيعية. غير أن القيمة الحقيقية (أى باستبعاد تأثير تضخم الأسعار) للنفط قد انهارت منذ ثمانينات القرن الماضى حتى أصبحت فى 1988 توازى ثلث قيمته بعد تصحيح عام 1973، وخمس قيمته بعد تصحيح عام 1979. بل إن القيمة الحقيقية كانت حينئذ تكاد تقارب مستوى نهايات الأربعينات. وفى جميع الأحوال فإن عائدات النفط الضخمة التى لا تجد لها إمكان توظيف منتج فى البلدان العربية الخليجية قد تسربت دائماً إلى أسواق المال خارج المنطقة العربية ووظفت أساساً فى الاستثمار فى الاقتصادات الغربية، وتعرضت للخسران كثيراً هناك، عوضاً عن أن توظف فى مشروع نهضة تاريخى فى الوطن العربى، أشرنا إلى بعض ملامحه أعلاه، ويؤتى أطيب أكله عبر التكامل العربى الفعال فى المنظر الحضارى.
هناك إذن موجبات للتحلى بروح أكتوبر، وتقوم حاجة لإنجازات من حجم نصره، فى الميدان المجتمعى، الآن ودوماً.
فى هذا الميدان، لا يجب أن تكون أكتوبر آخر الحروب الظافرة.
فنحن بحاجة لحرب كبرى دائمة ومتجددة، تكون فاتحتها عبوراً جديداً، قادراً وظافراً، هو الصياغة المعاصرة للجهاد الأكبر إن شئت.
إن خط بارليف الجديد ليس مرسوماً على الأرض هذه المرة. لكنه يحول بين مصر، كلها، ومستقبل مزدهر.
النقاط الحصينة على هذا المانع ما زالت، فى الأساس، الفقر والجهل والمرض، ولكن بمعايير القرن الحادى والعشرين، الذى داهمنا منذ خمسين شهراً ونحن له على غير استعداد.
فعلى مقياس التنمية البشرية المبسط، الذى يعده برنامج الأمم المتحدة للإنماء، مثلاً تتفوق على مصر، طبقاً لتقرير عام 2014، أكثر من مائة وتسعة من بلدان العالم (تضم من البلدان العربية اثنتى عشرة: دول مجلس التعاون الخليجى الست، بالإضافة إلى ليبيا ولبنان وسوريا والمغرب وتونس والأردن). وبينما كان ترتيب مصر 110 من بين 166 بلداً حُسب لها المقياس، كان ترتيب إسرائيل 19 وإيران 75، مع ملاحظة أن الترتيب الأدنى هو الأفضل.
وإذا اعتبرنا معايير أكثر دلالة من مقياس التنمية البشرية تزداد النقاط الحصينة المانعة من التقدم فى مصر عدداً، ومنعة. ولنذكر ثلاثة أمثلة فقط. فالتمتع بالحرية، حرية الوطن وحرية المواطن، ما زال منقوصاً فى مصر.
ومدى الإمساك بالتقانات الحديثة، وتطبيقها الفعال فى الإنتاج وباقى ميادين الحياة، ما زالا جد محدودين.
ويقلل من فرص التقدم فى مصر حالة الاستقطاب الاجتماعى المتعاظم، الذى ينوء بأعبائه بوجه خاص غالبية شباب مصر، عدتها للعصر الآتى. وأنى لمن لا يمتلك الأمل فى المستقبل أن يمنحه؟ وقد تفاقمت هذه الخاصة الذميمة منذ يولية 2013 حتى وصلت إلى نوع من الانشطار المجتمعى يقارب الاحتراب الأهلى.
إن الحرب المطلوبة ضد التخلف، وصولاً للتقدم، شاقة وطويلة. والمعارك المطلوبة على الساحة المجتمعية عديدة، ومتشابكة. وليس هذا مجال التفصيل فى توصيف هذه المعارك. فقط يتعين التأكيد أن المطلوب لا يقتصر على قليل جهاد فى بعض من هذه المعارك، أو حتى فيها كلها.
المطلوب حرب شاملة، على مستوى عبور أكتوبر، فى الميدان المجتمعى بكامله. ولعل الشرط الأهم للنصر فى هذه الحرب هو التضافر بين الجهاد فى المعارك المجتمعية، جميعها. والواقع أن النصر فى أى منها مرهون بقوة هذا التضافر.
والحروب المجتمعية قد تكون أصعب، والنصر فيها أعصى، من القتال الحربى.
إذن، حكماً بالنتائج المحققة، ومقارنة بالأمم المتقدمة والناهضة فى العالم، وبمتطلبات العصر، ما زال البون واسعاً بين الإنجاز المحقق من ناحية، وبين ما نتمنى لمصر، وما يقدر عليه المصريون، ويستحقون، من ناحية أخرى.
استخلاصاً، تقديرى أن إنجازنا المجتمعى، مصرياً وعربياً، منذ عبور القناة وتحطيم خط بارليف، لم يرق إلى مستوى التحديات التى فرضتها تركة التخلف الثقيلة، أو جرّتها تطورات الزمن الفائت. بعبارة أخرى، لم تتميز مجابهة هذه التحديات بالروحية والكفاءة اللتين ولدتا إنجاز أكتوبر العظيم.
معروف أن مميزات عديدة قد تآزرت لتنسج الفعل المصرى العبقرى الذى أنجب عبور أكتوبر العظيم. ومن دواعى الاعتزاز التأكيد على أهم هذه المميزات، مقومات النصر، التى تضم: عقد الإرادة على تحقيق غاية وطنية، والدأب فى السعى لنوالها، والإيمان بالذات، والاستشهاد فى سبيل الوطن، واللُحمة المتينة بين الدولة والجيش والشعب، والنظرة الشاملة، والتخطيط الدقيق، والتنفيذ الكفء، والاعتماد على الذات، وإطلاق الطاقات الكامنة فى المصريين، والمبادأة، والابتكار، والمثابرة، والتنسيق الفعال مع الأشقاء والأصدقاء.
لكن كان هناك كذلك عاملان غاية فى الأهمية: التعامل مع الواقع كما هو، خاصة دون تهوين من العدو أو من التحديات؛ وتطابق الادعاء مع الإنجاز الفعلى -دون تجميل- الأمر الذى فرض اعتراف العالم -العدو قبل الصديق- واحترام الجميع للإنجاز المحقق.
وقد يُعد اجتماع كل هذه المميزات فى كل متناغم استثناء، لدرجة أو أخرى، على الأداء المعتاد فى مصر.
ومن الواجب أن نتساءل: هل استمرت هذه الجذوة الطيبة على اتقادها، بعد أكتوبر، وحتى الآن؟
المؤكد، على أى حال، أننا بحاجة ماسة لاستدعاء هذه المميزات، جميعها، وتحويلها إلى القاعدة، بدلاً من أن تكون الاستثناء، فى حربنا المجتمعية.
ولنتذكر، فى النهاية، أن النصر فى الحرب المجتمعية يشكل أساساً متيناً لمنع حرب أخرى مدمرة فى المستقبل، وللانتصار فى الحرب -إن هى قامت- رغم حرصنا على السلام.