لا أعتقد أن هناك بلداً فى العالم عانى من تشكيل حكومته قدر ما عاناه لبنان الذى أمضى أكثر من 13 شهراً حتى تمكن من تشكيلها بعد معانة بسب الخلاف حول توزيع الحقائب الوزارية بين الكتل والتيارات الحزبية والتى يقدر عددها بنحو 63 كتلة وحزباً، تتوزع إنتماءاتها بين سبع عشرة طائفة مسيحية ومسلمة وهى فقط الطوائف المعترف بها رسمياً.
ومعضلة تشكيل الحكومات ليست هى المظهر الوحيد لمظاهر عدم إستقرار الحياة السياسية فى لبنان، الذى شهد منذ بداية عهده بالإستقلال عام 1944م الكثير من هذه المظاهر والتى تراوحت بين كثرة التعديلات الدستورية والمواثيق الوطنية والإغتيالات السياسية والمذابح الجماعية والحروب الأهلية، وكان آخر هذه المظاهر حالة التدهور الشديد الذى لحق بالاقتصاد اللبنانى – وهو اقتصاد ريعى بالدرجة الأولى – بعد تفشى جائحة كورونا فى العالم ووصول العملة المحلية لأدنى مستوياتها والذى تزامن معه حادث تفجير مرفأ بيروت فى الرابع من أغسطس الأسبق وهو الميناء الذى يشكل عصب الاقتصاد اللبنانى.
والغريب فى الأمر إنه على الرغم من أن الموجات التدميرية لهذا الإنفجار قد وصل مداها سريعاً إلى الدول المجاورة، إلا أن هذا الصدى استغرق عدة شهور حتى وصل إلى قصر الرئاسة فى بعبدا ومقر مجلس النواب فى وسط بيروت، وذلك على الرغم من أن هذا الصدى كان مختلطا بالصيحات التى رددها الشعب فى الشوارع بجميع طوائفة، مطالبة بدولة تعلو فوق المحاصصة الطائفية التى جعلت مسألة تشكيل حكومة كفاءات وليس إنتماءات أمراً يرقى إلى مستوى المعضلات.
فطبيعة تركيب النظام السياسى فى لبنان والذى نص عليه دستور عام 1926م وتعديلاته المتلاحقة فى أعوام 1927م، 1929م، 1943م، وعام 1990م وأكده الميثاق الوطنى عام 1943م، يقضى بتوزيع السلطة السياسية على أساس من التوازنات الطائفية وذلك وفقاً للتعداد السكانى الذى أجرى فى عهد الانتداب الفرنسى عام 1932م، والذى بموجبه أصبح المسيحيون يمثلون أغلبية سكانية بمثل ما أصبحت الطائفية المارونية هى أكبر الطوائف، والتى عارضت من وقتها إجراء أى تعداد آخر يمكن أن يخل بهذا التوازن الطائفى التاريخى، والذى بموجبه أقر دستور عام 1926م وتعديلاته أن يكون رئيس الجمهورية مارونيا ورئيس الحكومة سنيا ورئيس مجلس النواب شيعيا وقائد الجيش مارونيا، بالإضافة إلى تخصيص أغلبية مقاعد مجلس النواب والوظائف العامة لصالح المسيحيين بنسبة 5:6، وإن كانت هذه النسبة قد تم تعديلها بعد ذلك بموجب اتفاق الطائف عام 1989م لتصبح مناصفة بينهما، إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الإنقسام السياسى والتمايز الاجتماعى والاقتصادى بين الفريقين، إذ أن الطائفية فى لبنان ليس لها أبعاد دينية بقدر مالها من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية.
فالموارنة الذين يقفون على قمة السلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى لبنان يعارضون بشدة أية محاولة لتعديل وإصلاح النظام السياسى القائم.
وعلى الجانب الآخر، فإن القوى الإسلامية ترى أن هذا النظام لم يعد يتفق مع التوازن الطائفى القائم حالياً، وذلك بعد أن أصبح المسلمين يمثلون أكثرية عددية بين السكان. فالمؤشرات الصادرة عن إدارة الإحصاء السكانى لعام 2020م تفيد بأن نسبة المسلمين بطوائفهم الخمس تمثل 69.4% من إجمالى عدد السكان المقدر عددهم بنحو 4.8 مليون نسمة فى حين تبلغ نسبة المسيحيين بطوائفهم العشرة 30.6%، كان نصيب الموارنة منها 16.96% من إجمالى السكان.
ومما يضاعف من وطأة الانقسام السياسى فى لبنان، أن هذا الانقسام لا يقتصر فقط على مستوى الطوائف وإنما يمتد إلى داخل الطوائف نفسها، حيث تتوزع إنتماءاتها بين كتل وتيارات حزبية وعشائرية مختلفة، تصل حدة التنافس بينها أحياناً إلى مستوى الصراع المسلح، حتى صار الأستقواء بقوى خارجية أو بمليشيات مسلحة من المظاهر المألوفة فى الحياة السياسية اللبنانية، كإنضواء المكون الشيعى تحت لواء حزب الله وحركة أمل ولجوئهما إلى الإستقواء بمليشيات مسلحة تدعمها إيران وذلك للاستئثار بالسلطة وإحكام قبضته على الدولة بحثا عن موضع قدم بالقرب من قمة سلم النظام السياسى فى لبنان.
والتأثير السلبى للمحاصصة الطائفية لا يقتصر فقط على إعاقة تشكيل الحكومات فى لبنان، وإنما يمتد إلى ما بعد التشكيل من خلال تأثيره السلبى على أداء هذه الحكومات لدورها فى العملية السياسية. وليس أدل على ذلك من أن الحكومة الحالية التى يرأسها نجيب ميقاتى والتى تشكلت وفقا لتوازنات طائفية هشه فشلت فى إصدار قرار بشأن تنحية طارق بيطار قاضى التحقيق فى قضية مرفأ بيروت وهو الطلب الذى تقدم به ممثلو حزب الله وحلفائه فى هذه الحكومة وتهديدهم بالإنسحاب منها، وذلك على خلفية قيام بيطار باستدعاء ثلاثة وزراء سابقيين من أنصار حزب الله للتحقيق الأمر الذى اضطرت معه الحكومة إلى تعليق اجتماعاتها.
وتكرر هذه الأمر نفسه مع أزمة تصريحات وزير الإعلام المسيئة لدور السعودية والإمارات فى حرب اليمن والذى عجز رئيس الحكومة عن حمله على الإعتذار أو تقديم استقاله لا لشىء سوى أنه يمثل تيار المردة المتحالف مع حزب الله وحركة أمل والتيار الحر، بما عرف عن هذا التحالف من مواقف عدائية للمحيط العربى والخليجى.
والسؤال الذى يطرح نفسه فى النهاية هل الطائفية هى قدر لبنان؟.
ومن وجهة نظر كاتب هذا المقال فإن الإجابة هى بنعم وهذا ما ترجحه ظروف البيئة الجغرافية لهذا البلد التى تؤكد أن الطائفية جزء لا يتجزأ من ترابه.
فالطبيعة الجبلية الغالبة على سطح لبنان قطعت هذا السطح إلى وحدات تضاريسية منعزلة، ممثلة فى سلسلتان جبليتان تمتدان بطول البلاد وتحصران فيما بينهما وادى سهل البقاع.
ومع إنتشار ظاهرة الكهوف والمغارات الجبلية الناتجة عن إذابة التكوينات الجيرية، أصبحت هذه المعازل الطبيعية ملجأ وملاذاً آمناً لأبناء الأقليات الدينية والمذهبية الفاريين بعقيدتهم من وجه الاضطهاد الذى يتعرضون له من جانب مخالفيهم فى العقيدة الدينية والسياسية، لا سيما فى فترة العصر العربى الإسلامى (660 – 1258)، والذى أصبح فيه إقليم الشام ملجأ لهذه الأقليات فى منطقة المشرق العربى. وكما ساعدت المعازل الطبيعية على جذب الأقليات للأراضى اللبنانية، فإنها ساعدت أيضا على تكريس النزعة الإنعزالية والإنفصالية فى نفوس اتباع هذه الأقليات وتعميق هوة الخلاف بينهم، ولذا لم يكن غريباً أن تتخذ كل طائفة فى لبنان نظاماً تشريعياً وتعليمياً خاصاً بها وتقطن مناطق وأحياء وشوارع خالصة لها وليس بعيد حادثة منطقة الطيونه الواقعة على خطوط التماس بين بيروت الغربية ذات الأغلبية الشيعية وبيروت الشرقية بأغلبيتها المسيحية المارونية، وهى المنطقة التى شهدت تبادلا لاطلاق الأعيرة النارية بين الجانبين على إثر المظاهرات التى دعا إليها حزب الله لتعليق التحقيق فى قضية المرفأ.
وبناءً على ما تقدم، يمكن القول بأن البيئة الجغرافية للأراضى اللبنانية جعلت منها وبامتياز بيئة حاضنة للطائفية؛ إذ إنها تُعد أحد العوامل الرئيسة التى أسهمت فى نشأة هذه الطائفية واستمرارها، سواء بحكم مسئوليتها عن تهيئة المكان الصالح لاستقبال أبناء الأقليات الفارين بعقيدتهم من وجهة الاضطهاد أو بحكم مسئوليتها عن تكريس النزعة الإنفصالية فيما بينهم.