أمل كبير يتفاعل لدى قطاع عريض من المواطنين الليبيين؛ أن تتم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى موعدها المحدد، عسى أن تكون بداية لمرحلة استقرار وتوحيد للمؤسسات واسترداد لسيادة البلاد وانضباط فى الحياة العامة يتطلع إليها عموم الناس. إلى جانب الأمل ثمة قدر كبير من الخوف والقلق بأن لا تقبل فئات معينة نتائج الانتخابات إن جاءت على غير هواها ومبتغاها، وهى قوى كثيرة وبعضها مدجج بالسلاح ومدعوم من تركيا بالمرتزقة والقواعد العسكرية.
وما بين الأمل والقلق، تجرى خطوات العملية الانتخابية رغم الحديث المتواتر عن ضرورة تأجيل الانتخابات إلى حين إصلاح القوانين المنظمة لها. ومعظم حديث التأجيل يأتى من قبَل مسئولين فى المجلس الرئاسى وحكومة الوفاق، المفترض أن ينتهى دورها مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية إن حدثت ونتج عنها فوز أحد المرشحين رئيساً للبلاد، وهو الأمر المتوقع حدوثه عند إجراء الجولة الثانية للانتخابات بعد 52 يوماً من إجراء الجولة الأولى المقررة فى 24 ديسمبر الجارى بين أول مرشحيْن يحصلان على الأعداد الأكبر من تصويت الناخبين.
ما يدعم الأمل واقع دولى وإقليمى داعم للانتخابات بقوة، باعتبارها المدخل الصحيح لإعادة هيكلة ليبيا جديدة بناء على شرعية شعبية مؤكدة، هذا بافتراض أن تتم العملية بكل نزاهة وشفافية ودون تدخلات خارجية. وتصاحب الدعم الخارجى جهود تُبذل فى الداخل لإتمام العملية الانتخابية بأقل الأخطاء والمحاذير الممكنة، وتأييد صريح ولحوح من قبَل الأمم المتحدة وبعثتها فى ليبيا بأن تجرى الأمور وفقاً لما هو مخطط لها. ومع الدعم السياسى تأكيدات دولية بتوقيع عقوبات بحق أى فرد أو جهة تسعى لتخريب الاستحقاق الانتخابى أو تتمرد على نتائجه أو تعمل على عودة الفوضى مرة أخرى فى ربوع البلاد.
أما ما يثير القلق فهو كثير؛ أهمه استمرار وجود مرتزقة سوريين أتت بهم تركيا، ويقدر عددهم بأكثر من عشرة آلاف مرتزق، يتركزون فى الغرب الليبى، ويقدمون الحماية المسلحة لرموز ليبية تخضع للنفوذ التركى، أو تتماشى معه وتراه أساس بقائها فى المشهد السياسى سواء تمت الانتخابات أو لم تتم، وبعضها يقود مؤسسات رسمية تُطالب وتُلح بتأجيل الانتخابات واستمرار الوضع الانتقالى الراهن بدعوى وجود أخطاء فى قانون الانتخابات يجب تصحيحها أولاً. ووضع دستور مسبقاً. تركيا من جانبها أكدت للجنة العسكرية الليبية 5+5، التى عقدت اجتماعها الأخير فى أنقرة مطلع الأسبوع الجارى، أنها لن تسحب المرتزقة ما لم تقم أطراف أخرى بسحب مرتزقة منظمة فاجنر الروسية، التى ترى موسكو أنها جهة غير رسمية ولا تمثل الحكومة. ويمتد موقف أنقرة إلى رفض أى مناقشة لوجودها العسكرى فى ليبيا قبل وجود حكومة منتخبة. وهو موقف تركى يعنى أن الانتخابات ستجرى سواء تمت فى موعدها أو تأجلت عدة أشهر أخرى والبلاد مكبلة بقوات أجنبية نظامية وغير نظامية، يمكن أن تؤثر مباشرة على نتائج الانتخابات وعلى القبول بها شعبياً، فضلاً عن الدلالة السلبية بالنسبة لواقع سيادة البلاد بشكل عام.
انقسام المؤسسات يمثل عائقاً آخر، فمسئولية الأمن لمراكز التصويت المنتشرة فى المدن والمراكز تتطلب خطة أمنية موحدة واضحة المعالم، وجهة عليا مسئولة يمكن الرجوع إليها، وهو أمر لم يتحقق بعد، وبدوره يحفز الرافضين للانتخابات على التأثير على سير العملية الانتخابية حال انعقادها، وصولاً إلى رفض نتائجها إن خالفت توقعات أو رغبات البعض.
كثرة المرشحين للانتخابات الرئاسية، حتى فى الإقليم أو النطاق الجغرافى الواحد، واستناد كل منهم إلى ظهير شعبى أو قبائلى محدود، فى الوقت الذى يغيب فيه المرشحون ذوو الحضور والتأييد العابر للأقاليم الثلاثة (برقة وفزان وطرابلس)، يعنى أن الجولة الأولى لن تشهد الحسم، وسيكون الأمر مؤجلاً إلى الجولة الثانية. ومن جانب آخر فإن احتمال فوز اثنين بأعلى الأصوات من إقليم بعينه فى الجولة الأولى، ويحق لهما المنافسة فى جولة ثانية، ورغم صعوبته كاحتمال، ففى حال حدوثه سيثير إشكالية شرعية الانتخابات ذاتها، وربما يدفع كثيرين من الأقاليم الأخرى إلى عدم المشاركة فى الجولة الثانية. والغالب فى حال كهذا أن ترتفع دعاوى التزوير وأن تتجه بعض الفئات من القبائل أو التجمعات المسلحة المرتبطة بمدينة معينة أو قبيلة ما إلى إثارة الفوضى ووضع العراقيل أمام إتمام الاستحقاق الانتخابى بصورة مرضية للغالبية العظمى من المواطنين. ومن ثم تدخل البلاد فى حال قد تؤدى إلى عودة الانقسام المناطقى بدرجة أكبر مما حدث فى السنوات الأخيرة.
لقد أظهرت الاحتجاجات العنيفة حول محكمة الاستئناف فى سبها بالجنوب، أثناء تقديم محامى المرشح سيف الإسلام القذافى مذكرة استئناف حكم المحكمة الابتدائية بحذف القذافى الابن من قوائم المرشحين، أن القضاء الليبى يعمل فى ظل ضغوط شعبية عنيفة، فى الوقت الذى لا تستطيع فيه قوات الأمن رد أو منع هذه الأعمال العنيفة غير المبررة. والمرجح أن تكون هناك طعون كثيرة على نتائج العديد من الدوائر سواء للانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، وفى حال نظر تلك الطعون قضائياً تحت ضغط الاحتجاجات العنيفة والجماعات المسلحة، سَيُعد مدخلاً قوياً للتشكيك فى نزاهة العملية الانتخابية والانتقاص من شرعيتها، ما ستكون له تأثيرات وخيمة على عمل المؤسسات المُشكلة على أساس من فاز ومن خسر.
هذه القيود ومسببات القلق تتطلب من الآن ومن كل القوى السياسية والقائمين على الحكومة الانتقالية ومفوضية الانتخابات وضع ضوابط صارمة للحد من مثل هذه التدخلات المتوقعة، والتعاون الكامل فيما بينها ومع بعثة الأمم المتحدة وفريق المراقبين الأوروبيين للانتخابات، وإتاحة الفرصة لمشاركة جامعة الدول العربية ومنظمات مدنية عربية من جنسيات مختلفة لمراقبة الانتخابات فى أكبر عدد ممكن من اللجان، وبما يشكل رادعاً معنوياً لكل من تسول له نفسه إفساد هذا الحدث المهم والفاصل فى التاريخ الليبى، ومن ثم توفير دعم سياسى كبير لشرعية الانتخابات أياً كانت نتائجها. عدا ذلك تفقد البلاد فرصة بناء استقرار قادر على الصمود.