ودّع العراق عام 2021 محتفلاً بمئوية الدولة العراقية الحديثة، واستقبل 2022 مع ولادة عملية سياسية مختلفة الملامح عن سابقاتها. مصادقة المحكمة الاتحادية العليا تُعتبر دستورياً القرار القاطع الذى يحدد مدداً زمنية لتسمية الرئاسات الثلاث: البرلمان، رئاسة الوزراء، رئاسة الجمهورية. منذ الإعلان الرسمى عن نتائج الانتخابات، لم ينقطع الحراك السياسى بين الأحزاب التى حققت أغلبية رغم المناورات التى لجأت إليها الكتل الخاسرة، من تكرار تقديم الطعون أمام المحكمة الاتحادية، أو إثارة الشغب والفوضى، فى مشاهد صاعدت من غضب الشارع العراقى ضدها، بعدما نجح فى إقصاء هذه الكتل من المشهد السياسى فى انتخابات لم يشهد العراق مثيلاً فى نزاهتها واستقلالها منذ عام 2003 بشهادة جميع المنظمات الدولية التى مارست رقابة دقيقة على الانتخابات. الكتل التى أبعدها الناخب، وأغلبها فرض وجوده على الحياة السياسية عبر ميليشيات ولائية مسلحة، لم تعترف بإرادة المواطن ولا مشروع الدولة الوطنية العربية الذى رسّخ دعائمه رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى.
بدأ ظهور ملامح المشهد القادم مع تصريحات متكررة لزعيم الكتلة الفائزة بأعلى نسبة، مقتدى الصدر، تؤكد إصراره على تشكيل حكومة أغلبية وطنية وليست توافقية، فى بادرة إيجابية بعدما ثبت فشل المسار الثانى عبر التجارب السابقة، حيث أثبت واقعياً أنه مجرد غطاء يُخفى التداعيات الكارثية للطائفية والمحاصصة التى شُكِّلت على أسسها الحكومات السابقة، إذ مكنت كتل سياسية فاسدة من التغلغل داخل البرلمان والحياة السياسية، إما عبر ممارسة مختلف الخروقات خلال الانتخابات السابقة، أو حتى فرض وجودها بقوة الترهيب والسلاح المنفلت. «الصدر» ضمن، فى الساعات الأخيرة، نجاح تحالفاته مع الكتلتين الأكبر.. السنية «تقدم» برئاسة رئيس البرلمان محمد الحلبوسى، والكردية.
ورغم نجاح الكاظمى فى تجاوز العديد من التحديات.. ما زالت مظاهر التهديد تلقى بظلالها على المشهد السياسى والأمنى. أبرز التحديات تكمن فى نجاح جلسة البرلمان الأولى فى إتمام المرحلة الأولى من الاستحقاقات الدستورية وحسم اسم رئيس البرلمان، ثم مرشح رئاسة الوزارة من قبَل الكتلة الأكبر فى البرلمان، فى حال تعذّر حسم هذه الاستحقاقات، المرجّح استمرار الجلسة، بمعنى تأجيلها لعدة أيام. اللجان الإعلامية لـ«الإطار التنسيقى الشيعى» -الكتل التى أقصاها الناخب باستثناء ائتلاف دولة القانون برئاسة نورى المالكى الذى حصل على 33 مقعداً- بادرت إلى نشر تسريبات تزعم أنها الأسماء التى رشحها «الصدر» لتولى رئاسة الوزراء، وهى لا ترقى إلى مستوى المعلومات المؤكدة، خصوصاً مع مظاهر الخلاف بين «الصدر» و أبرز فصيل فى الإطار التنسيقى الذى يرأسه نورى المالكى. مطلب «الصدر» فى حكومة أغلبية وطنية لا تبدو سهلة التحقيق فى ظل الضغوط السياسية من جانب الإطار التنسيقى لفرض حكومة توافقية. «الصدر» بدوره يطمح إلى صياغة نمط تحالفات جديد، من خلال استقطابه أغلب الأطراف داخل الإطار التنسيقى واستبعاد طرف -تحديداً نورى المالكى- بالتالى تتضح أهم ملامح الصورة السياسية النهائية مع حصول الصدر على الأغلبية داخل البرلمان.
التحدى الآخر يكمن فى انسحاب القوات الأمريكية، إذ ترتبط خطورة القرار بعدة توازنات إقليمية ودولية. فى ظل التخبط السائد فى السياسة الأمريكية الخارجية تبرز عدة علامات استفهام، أولاها حول الالتزام التاريخى الأمريكى بضمان أمن الحليف التقليدى (إسرائيل) فى الشرق الأوسط، خصوصاً مع ازدياد حدة الصراع بين إسرائيل وإيران، التى رجحت عدة دراسات أنها ستكون حرباً عام 2022، هذه الأطراف اختارت العراق أرضاً لصراعاتها الإقليمية-الدولية، بالإضافة إلى كل الضغوط الكبيرة التى تمارسها إسرائيل على أمريكا لاتخاذ استراتيجية عسكرية أكثر وضوحاً لما يمثله خطر التهديد النووى لهذه الدول على أمنها. ثانياً، أمريكا فى تحدٍّ غير مسبوق تواجه روسيا والصين.. المؤكد أن هذا القرار من شأنه إضعاف الدور الأمريكى فى المنطقة لصالح القوى الأخرى اقتصادياً وسياسياً.. بل من المحتمل أن يُقصى أمريكا من البقاء داخل «اللعبة». ثالثاً، أمريكا وقعت، خلال زيارة الكاظمى إلى واشنطن العام الماضى، عقوداً تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.. استثمارات تفرض وجود غطاء أمنى يضمن حمايتها.. فالتقارير التى تؤكد انتصارات الجيش العراقى على داعش، تضع فى المقابل مخاوفها استناداً لتقارير أخرى تؤكد عزم قيادات التنظيم التى عبرت الحدود إلى سوريا العودة إلى العراق.