تحرش وتهديد بالقتل.. «السوشيال ميديا» واقع مروع في مواجهة الصحفيات
التصيد الإلكتروني
«باقة زهور عن يمينها، وصورة في برواز صغير عن يسارها، وفنجان القهوة المضبوط، والحاسوب في المنتصف، تخرج منه موسيقى هادئة تستمتع إليها وهي تتصفح رسائل بريدها الإلكتروني، وتلك التي جاءتها عبر حسابها على فيس بوك».. طقوس خاصة اعتادتها «شيماء» قبل أن تبدأ الكتابة الصحفية التي تمتهنها، لكن انطلاق ثورة 25 يناير 2011 غيّر المشهد تماما، وأصبح ميدان المظاهرات بديلا للمكتب، ورائحة الغاز والقنابل المسيّلة للدموع بديلا لرحيق الزهور، وصورة زميلها الشهيد أضحت ثابتة على خلفية اللاب توب بدلا من البرواز الذي لم يكن يفارق مكتبها، حتى بريدها الإلكتروني تغيّر هو الآخر، فبدلا من مراسلة المصادر التي تساعدها لإتمام عملها، أصبح مكانا مليئا بتهديدات الحبس والقتل والتشهير.
حلُمت «شيماء» بامتهان الصحافة في ظروف هادئة، أو على الأقل آمنة، لكنها تعرّضت في فترة ما من عملها في بلاط صاحبة الجلالة لاعتداءات وتهديدات، وكذلك لم تكن الناجية الوحيدة من الاعتداءات والتهديدات التي تتلقاها الصحفيات أو تمر إليهن عبر رسائل البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي، وفقا لشهادات عشرات الصحفيات اللاتي شاركن في استبيان نفذه معد التحقيق، كشف عن تعرض 5 من كل 10 صحفيات لنوع أو أكثر من الاعتداء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتنوعت بين «تحرش، ابتزاز، وتهديد بالقتل أو الحبس».
هل تعرضت لتهديد أو إيذاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟
ترى شيماء عادل، وهي صحفية مصرية، أنّ استهداف الصحفيين أثناء عملهم أمر ليس غريب، مدلّلة على ما قالته باغتيال الزميلين الحسيني أبوضيف، وميادة أشرف، خلال عملهما في تغطية المظاهرات في مصر.
شهدت «شيماء» اشتباكات بين عناصر جماعة الإخوان الإرهابية ومتظاهرين في أحداث مسجد الفتح، حيث تدخّل الأمن لفض الاشتباكات، في الوقت الذي احتمى فيه عناصر «الإرهابية» بالمسجد: «فوجئت بقناة الجزيرة القطرية تضع صورتي على مداخلة لمراسلتها في القاهرة، مدّعية أنّني أغطي الحدث لصالحها، رغم أنّني كنت في المنزل آنذاك، ما دفع الجريدة التي أعمل بها لإصدار بيان ينفي تكليفي بتغطية أحداث مسجد الفتح، ويؤكد عدم وجودي بمحيط الأحداث».
حاولت «شيماء» التواصل مع المسؤولين في القناة لتوضيح الأمر للمشاهدين، لكن الأخيرة رفضت حسب ما أكدت الزميلة: «تعرضت لسيل من الهجوم على مواقع السوشيال ميديا بسبب المكالمة المزعومة، والتزمت المنزل لفترة تجاوزت الأسبوع، ثم رفعت دعوى قضائية ضد القناة، وأثبتت المحكمة صحة موقفي، وحصلت على حكم بالتعويض المادي من القناة، وبعدها تلقيّت تهديد وسباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
ما نوع التهديد أو الإيذاء الذي تعرضتِ له؟
كشفت دراسة أجراها المركز الدولي للصحفيين، بعنوان «الاتجاهات العالمية للعنف عبر الإنترنت ضد الصحفيات»، عن أنّ نصف الصحفيات العربيات اللواتي شاركن في استطلاع للرأي، واجهن هجمات يعتقد أنّها بدأت عن طريق الإنترنت، كما قالت واحدة من كل 5 صحفيات شملهن الاستطلاع، إنّهن شعرن بعدم الأمان الجسدي نتيجة العنف عبر الإنترنت.
لحظات رعب بعد احتجاز «دينا» في منزل أحد الأهالي
تشارك «دينا» - اسم مستعار - موضوعاتها الصحفية عبر حسابها على فيس بوك، وبياناتها كافة منشورة على الموقع ذاته، صورها وجهة عملها، ونتيجة تغطيتها الأحداث من مواقعها أصبحت معروفة بين المتظاهرين والأهالي وحتى بعض رجال الأمن، تقول: «أعمل لصالح صحيفة مستقلة لها توجهات خاصة، وأتلقى رسائل سباب وهجوم عبر حسابي على فيس بوك من مٌعادين لتوجه الجريدة التي أعمل بها، لكني لا أكترث لها كثيرا».
لم تتوقف التهديدات التي تتلقاها «دينا» عند رسائل فيس بوك فقط، لكنها امتدت للاحتجاز داخل منزل أحد الأهالي: «كنت أُغطي واقعة مقتل مواطن إبان ثورة 30 يونيو، وفي هذه الأثناء تجمهر عدد من المعادين لتوجه الصحيفة التي أعمل بها في موقع الحادث، واحتجزوني في منزل أحدهم لمدة ساعة ونصف الساعة».
دراسة المركز الدولي للصحفيين
تكمل «دينا» رواية ما عاشتها من رعب بعد لحظات من الشرود: «كنت خايفة جدا ومكنتش عارفة هيعملوا فيّا إيه، كان ممكن مخرجش من البيت ده عايشة، بس واحد من الناس ساعدني وخرجني، وأول ما خرجت جريت على القسم وعملت محضر».
واقعة أخرى ترويها «دينا» أكثر رعبا مما سبق، إذ تلقت تهديدا عبر رسائل فيس بوك بالقتل، تبعها مكالمات هاتفية بالمضمون ذاته، وبعدها بأيام تعرّضت بالفعل لمحاولة دهس بدراجة نارية، لكنها لم تتمكن من إثبات صلة التهديدات بالحادث فلم تحرر محضرا، كما أنّ المؤسسة التي تعمل لصالحها لم تساندها في أزمتها، ما دفعها للرحيل عنها في وقت لاحق.
هل قدمت مؤسستك لك الدعم؟
حذّر أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، من الإفلات من العقاب بشأن الاعتداءات على الصحفيين، وأضاف في بيان عنه، أنّ الصحفيين يواجهون تهديدات لا حصر لها، خاصة في المجال الرقمي، كما أنّ الصحفيات يواجهن بشكل خاص خطر التعرض للعنف عبر شبكة الإنترنت.
أصدرت مجموعة من خبيرات وخبراء الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، بيانا قالوا فيه إنّ «تهديدات سلامة الصحفيين اتخذت أشكالا جديدة في العصر الرقمي، خاصة بالنسبة للصحفيات»، محذّرين من أنّ الفشل في التحقيق في الهجمات عبر الإنترنت والتصدي لها، سيكون له عواقب في الحياة الواقعية على الصحفيات، ما يؤثر على صحتهن العقلية والبدنية.
الصحفيات أصبحن فريسة للتصيّد الإلكتروني
نهى لملوم، صحفية ومدربة سلامة مهنية وأمان رقمي في الاتحاد الدولي للصحفيين، تقول إنّ الصحفيين والصحفيات كثير منهم يجهل الثغرات الإلكترونية التي قد تفتح باب المتاعب على مصراعيه أمامهم، ويصبح من السهل أن تتحول الصحفية إلى فريسة لتصيّد إلكتروني نظرًا لطبيعة عملها دون أن تدري.
هل تستخدمين حساباتك الشخصية للتواصل مع المصادر؟
دشنت نهى مبادرة «الأمان الرقمي والسلامة المهنية للصحفيين بالعربي»، وسعت إلى توعية الصحفيات والصحفيين بمخاطر التصيّد الإلكتروني وطرق تفاديها عبر فيس بوك، كما تعاونت مع نقابة الصحفيين في تنظيم دورات تدريبية، ونظمت دورات في محافظات مصر المختلفة خاصة الصعيد، ليصل إجمالي المستفيدين من الدورات إلى 300 صحفي بينهم 100 صحفية.
عدّدت نهى المشكلات التي تقابلها الصحفيات أثناء عملهن، وهي «سرقة الحسابات الشخصية، استخدام صور الصحفيات في صفحات وهمية للابتزاز المادي أحيانا وللمضايقات أحيانا أخرى، وانتحال الصفة، فضلا عن تعرّض بعضهن للتحرش الإلكتروني».
«نادية»: أكثر ما أحزنّني أنّ التهديد طال ابنتي
نشر معلومات الصحفي عبر مواقع التواصل الاجتماعي قد يجعله عرضة للتهديدات، وإجراءات السلامة المهنية تقتضي عدم الإفصاح عن المعلومات للجميع، وهو ما قابلته الصحفية «نادية مبروك»، بعد نشر مقالا بشأن أحد الأشخاص، فما كان منه إلا أن ينشر مقالا آخر إعمالا بـ«حق الرد»، لكن ما حدث أنّه تصفح حسابها عبر تويتر واحتفظ بصورة لها، وأرسل لها تهديدا عبر الموقع ذاته مصحوبا بالصورة.
هل تضعين بيانات شخصية (صور - هاتف - عنوان) عبر حسابك؟
أحيانا يتعامل الصحفي بـ«عدم جديّة» مع التهديدات أو الهجوم عبر مواقع التواصل، إذ يعد شخصية عامة، وقد يتعرض لمثل هذه المواقف من حين لآخر، ما دفع «نادية» لعدم الاكتراث للهجوم الذي تلقته بسبب المقال، ولم تتخذه على محمل الجد، لكن ذلك لم يمنعها من الشعور بالإيذاء، خاصة أنّ الصورة التي شاركها الشخص كانت لها بصحبة طفلتها، ما اضطرها لحذف صور ابنتها وعدم مشاركتها مرة أخرى عبر مواقع التواصل.
نقابة الصحفيين: لا نتلقى شكاوى رسمية بشأن التهديدات الإلكترونية إلا نادرا
حماد الرمحي، عضو مجلس نقابة الصحفيين، ورئيس لجنة تطوير المهنة والتدريب، قال إنّ النقابة لا تتلقى شكاوى رسمية بشأن التهديدات الإلكترونية إلا نادرا، فخلال سنتين تلقت شكوى واحدة فقط، موضحا أنّ الجهة المسؤولة عن التحقيق في وقائع التحرش الإلكتروني على سبيل المثال هي «مباحث الإنترنت»، نظرا لكونها جنحة يُعاقب عليها القانون، ولا يتم التحقيق فيها من قبل النقابة.
هل أبلغتِ نقابة الصحفيين بتعرضك للتهديد؟
هل قدمت نقابة الصحفيين لك الدعم؟
يضيف عضو مجلس «الصحفيين» أنّ دور النقابة توعوي، لذا تهتم بين الحين والآخر بتنظيم حملات وتدريبات خاصة بالأمن الرقمي لتوعية الصحفيات بمخاطر التصيّد الإلكتروني، وكيفية حماية الخصوصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والإنترنت بشكل عام، عن طريق خبراء معتمدين من الاتحاد الدولي للصحفيين.
ميتا: ندعم الصحفيات وندعوهن لتوثيق التحرش والاعتداء
محمد عمر، مدير الشراكات الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في Meta، يقول إنّ التهديدات الرقمية أصبحت عامل خطر رئيسي على الصحفيين، لذلك أعلنت Meta انطلاق أعمال السنة الثانية من مشروع «لن أبقى صامتة (IWNSS)»، ونفذته شبكة أريج للصحافة الاستقصائية في عام 2021 مع حلف من 4 شركاء، بهدف تزويد الصحفيات على وجه الخصوص بأدوات فعالة للتعبير عن أنفسهن، وتوثيق التحرش والاعتداء، ورفع صوتهن لمحاسبة المسؤولين.
يضيف عمر: «أطلقنا #SafetyFirst (#السلامة_أولًا) وهو مشروع تدريبي جديد بالشراكة مع أريج لتدريب الصحفيين على الأمن والسلامة الرقميين، فضلا عن إعلان التوسع العالمي لبرنامج Facebook Protect، وهو برنامج أمني يساعد على تأمين الأشخاص الذين قد يكونون أكثر عرضة لخطر الاستهداف عبر الإنترنت وتصبح حساباتهم مهددة، وتشمل هذه المجموعات المدافعين عن حقوق الإنسان، الصحفيين، والمسؤولين المنتخبين».
وعن مواجهة التنمر والتحرش عبر الإنترنت، ينصح مدير الشراكات الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في Meta، بالإبلاغ عن هذا السلوك، ويوضح أنّه حال إبلاغ فيس بوك عن أي محتوى، يراجع ويحذف أي شيء لا يتفق مع معايير المجتمع، ويتم الاحتفاظ بالاسم والمعلومات الشخصية الأخرى في سرية تامة عند الوصول إلى الشخص المسؤول.
وإلى جانب «الإبلاغ»، تشجع META بحسب «عمر» الأشخاص، على استخدام الأدوات المتاحة عبر فيس بوك للمساعدة في الحماية، منها تجاهل رسائل المتنمرين أو حظرها بالكامل، وإدارة التعليقات على المنشورات.
رغم الصعوبات والمخاطر التي تواجهها الصحفيات في ممارسة مهنتهن فإنهن لا يتوقفن عن ترك بصماتهن المهمة وعلاماتهن المضيئة على مائدة الإنتاج الصحفي.. فمتى تحصلن على بيئة عمل آمنة تحمي حقوقهن وتدفعهن إلى المزيد من الإبداع؟