فى ظل المشكلات الكبرى التى يواجهها الوطن ترددت طويلاً فى أن أكتب عن مشكلة يفترض أنها عادية ترتبط بالحياة اليومية للمواطنين كمشكلة الانضباط المرورى، لكن السيل بلغ الزبى وسالت دماء المصريين الزكية بأكثر مما تسيلها عمليات الإرهاب، وأحسب أننا نهوى بسرعة إلى قاع العالم بمعايير الانضباط المرورى، إن لم نكن قد تردينا إلى هذا القاع منذ مدة. سافرت فى حياتى إلى عشرات البلاد الأوروبية والأمريكية وللأسف العربية والأفريقية ولم أجد إلا نادراً غياباً للانضباط المرورى كغيابه بيننا، والواقع أن أى مواطن صالح لا بد أن يصاب بالذهول والأسى مما يشاهده يومياً من مظاهر التسيب المرورى، ألا نصاب بالرعب فى كل يوم غير مرة من تلك الصواريخ المسماة بالسيارات التى تتجاوز السرعات المسموحة بعشرات الكيلو مترات إذا سمحت لها ظروف الطريق بل وتتلوى كالثعابين فى «غرز» تهدد أرواح جميع من هم على الطريق بمن فيهم الثعابين أنفسهم، فيما يذكرنى بتعبير «الجهل النشيط» الذى صكه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وكان فيما أذكر يصف به سلوك أصحاب البنايات الذين لا يلتزمون بالمعايير السليمة للبناء، مع أنهم سوف يقطنون فيها فتنهار على رؤوسهم ورؤوس قاطنيها معاً، وهل رأيتم فى أى بلد آخر عربات نقل ضخمة تسحب وراءها مقطورة بالضخامة نفسها بسرعة تتجاوز 100 كم / ساعة وتمارس بدورها سلوك «الغرز»؟ وبمناسبة السرعات العالية فإنه من تقاليدنا العريقة أن تسير سيارات كبار المسئولين فى هذه الطرق بسرعات مخيفة وكأن الالتزام بالقواعد عقوبة للمواطن الغلبان.
فإذا تركنا تجاوز السرعات القانونية أذكركم باستشراء ظاهرة السير عكس الاتجاه، فما إن يزدحم طريق حتى يتم الانتقال بسلاسة فائقة إلى الاتجاه المعاكس إن كانت به سيولة مرورية. يصعد المرء على مطلع طريق علوى فيفاجأ بمن هو نازل وبسرعة وينزل فيفاجأ أيضاً بمن يستخدم المنزل مطلعاً، ألا تصادفكم يومياً تلك الكوارث المتحركة ليلاً ببطء على الطريق دون أى أنوار تمهيداً لكوارث مرورية؟ ألم نرصد منذ سنوات قليلة عبقرية سائقى سيارات النقل من بنى وطنى الذين نجحوا فيما فشلت فيه مصانع السيارات العالمية؟ فهم يُحمِلون سياراتهم بالعرض وليس بالطول، إذ يأتون بألواح خشبية مستعرضة ويضعون عليها حمولتهم فى نظام بديع، بحيث يصبح عرض السيارة أطول من طولها، وتشغل سيارة النقل بهذا ثلاث حارات: التى تسير فيها واللتين على يمينها ويسارها ناهيك عن الثقل الفادح للحمولة الذى يهدد سلامة السيارة (الجهل النشيط مرة أخرى). ألا يشاهد المسئولون الانتهاكات المستمرة وللأسف المستقرة لحرم الطريق؟ وهل لاحظوا مثلاً العدوان الصارخ على الطريق الدائرى باستخدامه «مقلباً» لنواتج الحفر والهدم على شكل أهرامات صغيرة؟ وهل يرون مثلنا بائعى التين على طريق الساحل الشمالى وهم يعطلون ثلثه فى موسم الذروة؟ ألا تخيفهم الحالة المزرية لعدد لا يستهان به من الطرق كسبب محتمل للحوادث؟ ألا تشغلهم قرائن الفساد الفاجر فى عمليات إصلاح الطرق التى تستغرق شهوراً وتنهار بعد أسابيع؟ ألا تزعجهم حالة إدمان المخدرات التى تعانى منها نسبة مخيفة من سائقى عربات النقل فى مصر؟ وغير ذلك الكثير لكن النصال تكسرت على النصال.
نصف الأزمة على الأقل يأتى من غياب الانضباط، فأين الرقابة اللصيقة للطرق بالكاميرات لفضح المخالفات التى أصبح تجاوز السرعة أهونها؟ وأين توقيع العقوبات الفورية الرادعة على المخالفين؟ وأين الدوريات الراكبة التى تضبط المخالفات ميدانياً وتمسك بتلابيب المخالفين وتوقع عليهم العقوبات فى موقع المخالفة؟ منذ أقل قليلاً من نصف قرن شاهدت فيلماً كوميدياً فرنسياً كنت أعشق أداء بطله الراحل «لويس دى فينيس» وكان متقمصاً لدور شرطى مرور يركب سيارته فى الطرق السريعة ويقودها بالسرعة القانونية ويلحق بأى سيارة تتجاوزه ويوقع العقوبة على قائدها بمجرد إيقافه، بينما نصر على الكمائن الثابتة التى يبرع المخالفون فى اكتشافها ويتضامن الجميع فى التحذير منها بأضواء سياراتهم العالية، أين مباحث المرور التى يركب أفرادها وسائل النقل لضبط المخالفين متلبسين وتوقيفهم؟ أين الالتزام التام بقانون المرور؟ وأين التخطيط المبدع لحل مشاكل الاختناقات الذى ثبت نجاحه فى عدد من الحالات؟ وأين ضمان توفير أماكن كافية لانتظار السيارات وفتح أماكن الإيواء بقوة القانون بعد أن تحولت إلى أغراض استثمارية بالتحايل عليه؟ والمشكلة الأشد أن أفكار المسئولين عن المرور -وهم يبذلون جهوداً مقدرة لكنها غير كافية- تأتى عادة من «داخل الصندوق»، وهم ينظرون إلى الأفكار الجديدة كنظرة رهط فرعون إلى دعوة موسى وهارون لهم، فوصفوهما كما فى الآية الكريمة من سورة طه بأنهما يريدان أن يذهبا «بطريقتكم المثلى»، أما المشكلة الأكبر فهى أن «طريقتنا المثلى» سائدة فى معظم مشاكلنا من سحابة الدخان إلى النظافة إلى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، وهو ما يماثل تناقضاً صارخاً مع الروح الجديدة التى يحاول رئيس الجمهورية جاهداً أن يبثها فى المسئولين والمواطنين معاً، فمن يخلصنا من «الطريقة المثلى»؟