لقد قال السيد المسيح عليه السلام بأنه بُعث إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، ليهديهم إلى ملكوت السماء، فشنفوا له وتآمروا عليه ونكلوا به وعذبوه وأهانوه ودبروا لقتله، انتهاءً بمأساة الصلب بغض النظر عن شخص المصلوب، وهل هو ذات شخص السيد المسيح كما تؤمن المسيحية، أم أنه شخص آخر شُبَّه على اليهود أنه هو، وأن الله تعالى أنقذه منهم ورفعه إليه.
ولم يتحدث كتاب من الكتب السماوية عن زكريا ويحيى ومريم والمسيح بمثل الحديث البليغ الرائع الذى ورد عنهم فى القرآن الكريم. «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء* فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياً مِّنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران 35 -39).
«وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ» (آل عمران 42).
«إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ» .. (آل عمران 45- 46).. «وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ» (الحديد 27).. «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ».. (النساء 171).. «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (البقرة 87، 253)..
والمسيح فى القرآن الحكيم أعز من أن يُقتل أو يناله ما ينال البشر، فيقول القرآن.. «إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» (آل عمران 55)..
وعمن افتروا من بنى إسرائيل على مريم والمسيح كذباً، قال عنهم القرآن الكريم: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (النساء 156- 158).
هذا الاحتفال فى الذكر الحكيم بأنبياء الله، قد انحفر فى وجدان المسلمين، فلا تجد أبناء ديانة من الديانات يوقرون الأنبياء جميعاً مثلما يوقرهم المسلمون.. ولا تجد من أبناء هذه الديانات أو الملل والنحل من يسمون أبناءهم بأسماء الأنبياء مثلما يفعل المسلمون.. فمن أسماء المسلمين التى درجوا عليها منذ نزل الإسلام نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وعيسى، وموسى، ويحيى، وشعيب، وأيوب، وهارون، وزكريا، ومريم.. وهذا الاحتفال بالنبوات والرسالات والأنبياء، هو صدى حقيقى وعميق لسماحة وعالمية الإسلام الذى استوعب كل هذه الرسالات وأتى بالدين الخاتم الذى شمل فى حناياه ما أتت به باقى الرسالات وقدم للإنسانية الدين الشامل الذى يتسع للبشر جميعاً وللناس كافة.
فالرسل فى شرعة الإسلام، فروع شجرة واحدة وبناة بيت واحد يؤسس السابق للاحق ويكمل اللاحق ما سبق إليه السالف، لذلك كان من «عالمية الإسلام» وعناصر «العالمية» وموجباتها فيه، أن قرآنه المجيد أمر بالإيمان بجميع الرسل وما أنزل إليهم جميعاً، فقال سبحانه وتعالى فى تعريف المؤمنين «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ..» (البقرة 4، 5)..
ولأن الرسالة المحمدية هى الرسالة الخاتمة، فإنها أرشدت إلى ما تكمل به الإنسانية فى عالم الروح والمادة، وعمم الخطاب فيها للناس كافة بلا تفرقة لجنس أو لون أو عصبية أو جاه أو سلطان.. وإنما العبرة بالتقوى والعمل الصالح.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».. (الحجرات 13)
وقد سبق أن كتبت سلفاً لعدة صحف، عن محبة المسيح عليه السلام.
والمسلمون يسمون أولادهم باسم عيسى، ويسمون بناتهم باسم مريم، ويزورون المزارات المسيحية فى أرض مصر.. ودير سانت كاترين، ودير المحرق، احترام الأديان، فرع على شجرة أصيلة أقرها القرآن المجيد الذى جعل الإيمان بكل الرسالات أصلاً من الأصول الإسلامية.. ففى القرآن الحكيم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 136، آل عمران 84).
يعرف المسلم، مما يعرفه من القرآن المجيد، أن الله تعالى قد أيد المسيح عيسى بن مريم منذ الحمل فيه حتى رفعه الله بآيات معجزات هائلات: حمل مريم فيه بغير أب، وكلامه فى المهد، وجعله الماء خمراً فى عرس «قانا الجليل»، وتصويره الطين على هيئة طير ونفخه فيه فتكون طيراً بإذن الله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإخباره بنى إسرائيل بما يأكلون وبما يدخرون فى بيوتهم، ومع ذلك أحس عيسى منهم الكفـر، ومكروا لصلبه وقتله ومكر الله والله خير الماكرين. «إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» (آل عمران 55).
وفى القرآن الحكيم: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة 82).
لا عداوة بين الإسلام والمسيحية، فالمسيحية قوامها المحبة والسلام، والإسلام يحترم كافة الديانات وينبذ كل أنواع العصبية وهى عدوة السماحة والإسماح.. يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُـم مِّن ذَكَـرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُـمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات 13).. وفى الحديث: «كلكم لآدم.. وآدم من تراب.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم». «يتسامح الناس، ويتسامح المتدينون، حين يدركون أن أصلهم واحد، وأن انتماءهم إلى شجرة واحدة.. إلـى ذلك لفت القرآن الحكيم، حين نوه فى العديد من آياته إلى أن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل واحد ونفس واحدة.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء» (النساء 1).. «وَهُـوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (الأنعام 98).. «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (الأعراف 189).. هذا التنبيه القرآنى المتكرر إلى أصل الإنسانية الواحد، تنهدم به نعرات العنصرية والعصبية، وتتسع الباحة الإسلامية الوارفة إلى الناس جميعاً على سنة الهداية والاسماح.. لا معيار للمفاضلة إلاّ بالعمل والتقوى.. «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى» (النجم 39. 40).