غاية الإسلام أن يهدى من لم يهتد، وهذه الهداية قوامها الإقناع بالحجة والبيان، بالحكمة والموعظة الحسنة وائتلاف الناس بالحب والرفق والإسماح.. «المؤمن آلف ومألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».. «ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه، وما خرج من شىء إلا شانه».. الهداية الإسلامية لا تفرض بالقسر والإرغام، وإنما هى دعوة هادية بالمحبة والبيان.. «مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الإسراء 15).
لا يسعى الإسلام لفرض دين، ولا يجبر على هداية.. فى خطاب القرآن المجيد لنبى القرآن: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ» (النحل 125).. رسول القرآن عليه البلاغ والإرشاد لا الفرض ولا الإجبار.. «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ» (الشورى 48).. «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (البقرة 272).. «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (القصص 56).. لا يتعقب الإسلام ولا يطارد أحداً أو يفرض نفسه عليه.. «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (البقرة 256).. «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين» (يونس 99)..
«أيادى الإسلام ممدودة إلى الدنيا بالمحبة والإسماح والسلام.. لا يجزع الإسلام ولا يخشى السلام».. لفظ «السلام» هو تحية الإسلام.. ولفظ «الإسلام» ذاته منحوت من مادة «السلام».. نبى القرآن «رحمة مهداة»، وهدية من السماء إلى العالمين.. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء 107).. يقول رسول القرآن: «إن جعل السلام تحية لأمننا، وأماناً لأهل أمتنا.. السلام قبل الكلام.. لا تؤمنوا حتى تحابوا: ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم».. السلام والإسماح، مهجة وروح الإسلام.. تحية الله تعالى للمؤمنين تحية سلام: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ» (الأحزاب 44).. ومستقر الصالحين هو دار الأمن والسلام: «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ» (يونس 25).. «لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ» (الأنعام 127).. وأهل الجنة الموعودة لا يسمعون لغواً من القول ولا يتحدثون بغير لغة السلام: «لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً» (الواقعة 25- 26).
وفى مصر بالذات، انحفرت أصداء هذه المبادئ السامية فى نسيج المصريين وانطبعت بها حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فلم تعرف فارقاً بين المسلم والمسيحى.
هذه الشجرة الباسقة للتسامح ظلت فروعها ممتدة إلى العصر الحديث.. اتخذ صلاح الدين طبيباً مصرياً يهودياً له هو هبة الله بن جميع، من مئات السنين، ولذلك أمثلة حية فى عصرنا الحاضر.. موسى قطاوى باشـا، اليهودى المصرى، وُلىّ وزارة المالية المصرية فى القرن الماضى، ووُلىّ نوبار باشا الأرمنى الأصل (1825 - 1899) رئاسة الوزارة المصرية أكثر من مرة، ومكرم عبيد الذى حمل عدة حقائب وزارية وملأ الحياة الوطنية، كان شعلة حية للعطاء بلا فوارق دينية، سواء فى مرحلته مع الوفد المصرى، أو بعد خروجه وتأليفه حزب الكتلة الوفدية.
المزارات المسيحية فى مصر الإسلامية، مزارات للمسلمين أيضاً.. مزارات سانت كاترين، والقديس مار جرجس، والقديسة دميانة بالدقهلية، وسانت تريز بشبرا، ودير المحرق بأسيوط وغيرها، مزارات يوقرها ويزورها ويتبرك بها المسلمون.. هذه الصورة الرائعة للتآخى بين الأديان.. ترى فى المسلمين أسماء نوح وموسى ويعقوب وعيسى وداود وسليمان ويوسف وإسحق وهود ويونس وهارون وعمران ومريم وشعيب.. يكثر المسلمون من تسمية أولادهم بهذه الأسماء، ولا يجدون فى ذلك غضاضة، بل ولا يلتفتون إلى ذلك لأنه صار جزءاً من نسيجهم طبعوا عليه من سماحة الإسلام وتوقيره وإجلاله لكل الأنبياء ولجميع الأديان والرسالات.
وعرفنا مما عَرَّفَنا القرآن المجيد، المنزلة الرفيعة والتأييد الإلهى لكل من السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام، وتابعنا هذه الرعاية الإلهية منذ الحمل فيه حتى رفعه الله بآيات معجزات هائلات: حمل مريم فيه بغير أب، وكلامه فى المهد، وجعله الماء خمراً فى عرس «قانا الجليل»، وتصويره الطين على هيئة طير ونفخه فيه فتكون طيراً بإذن الله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإخباره بنى إسرائيل بما يأكلون وبما يدخرون فى بيوتهم، ومع ذلك أحس عيسى منهم الكفـر، ومكروا لصلبه وقتله ومكر الله والله خير الماكرين. «إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» (آل عمران 55).
وعن جذور هذا الإخاء، وهذه المحبة فى بر مصر، بين المسلمين والمسيحيين بخلاف اليهود الذين أنكروا وتنمروا وشنفوا للسيد المسيح ثم لمحمد المصطفى رسول الإسلام هذه الجذور قد أخبر بها القرآن الحكيم، وتلقيناها عنه من الصغر، فجعلنا نقرأ ونتلو ونسمع قول الحق عز وجل: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (المائدة 82 - 83).
درجنا إذن على محبة السيد المسيح والمسيحيين، وتعلمنا على مر الزمن، ومراجعة ما ورد فى الأناجيل المسيحية، وفى القرآن الحكيم أنه لا عداوة بين الإسلام والمسيحية، فالمسيحية قوامها المحبة والسلام، والإسلام يحترم كافة الديانات وينبذ كل أنواع العصبية، وهى عدوة السماحة والإسماح.. يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُـم مِّن ذَكَـرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُـمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات 13).. وفى الحديث: «كلكم لآدم.. وآدم من تراب.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم» يتسامح الناس، ويتسامح المتدينون، حين يدركون أن أصلهم واحد، وأن انتماءهم إلى شجرة واحدة.. إلى ذلك لفت القرآن الحكيم، حين نوه فى العديد من آياته إلى أن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل واحد ونفس واحدة.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً» (النساء 1).. «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» (الأنعام 98).. «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (الأعراف 189).. هذا التنبيه القرآنى المتكرر إلى أصل الإنسانية الواحد، تنهدم به نعرات العنصرية والعصبية، وتتسع الباحة الإسلامية الوارفة إلى الناس جميعاً على سنة الهداية والإسماح.. لا معيار للمفاضلة إلاَّ بالعمل والتقوى.. «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى» (النجم 39 - 40).