يبدو أن الآدمى لم يسأل من أين أتى إلا فى وقت متأخر، وهذا واضح حتى الآن فى الأطفال والصغار وأشباههم. فالصغير يبدأ الوجود بصفة مطلقة ابتداءً من وجود ذاته ثم تتوالى حوله الأحداث وبعدها الأخبار ويسمع أن وجوده سبقه وجود والديه وإخوته الأكبر منه سناً.. وسبقه أقاربه والجيران والعشيرة وأهل الوطن.. وسبقه وجود آلاف ماتوا قبل وجوده.. ثم يتلقى ما نسميه الآن بالتاريخ أو القصص والحكايات وسيَر الماضين فى الدنيا أو فى الخيال.. ومن خلال ذلك يتسرب إلى تفكيره أن وجود كل آدمى قد سبقه وجود آدمى آخر أو آدميين آخرين.
وذلك التسرب لا يحدث من طريق المحو والإزالة، ولكن من طريق الإضافة والمزاحمة والتفطن ووضع شىء جديد إلى جوار شىء سابق.. قد يغطيه تماماً وقد يبقى شىء من القديم عاملاً إلى جوار الجديد فيتعارضان.. أو قد يعمل كل منهما فى منطقة خاصة، وهذا هو الشأن فى أغلبية أحوال البشر حتى يومنا هذا.. فتجد الإنسان مهما ارتقى وتعلم وفكر ودبّر وفهم وتفلسف، تجده فى معظم أحواله يسير على أن الوجود الحقيقى العينى فى الدنيا هو وجوده ودنياه، وأن إرادته واختياراته هى الأصل الذى يرد إليه حكمه على كل ما يصادفه أو يواجهه.. وهو لذلك يرفض الموت لنفسه ولأحبابه، ويرى فيه نوعاً من الاغتيال الهمجى لا يمكن إساغته.. محاولاً إبعاد شبحه بكل حيلة، مع فرض إرادته ورأيه وتعليماته ووصاياه بما يحب وما يكره.. يفرض ذلك على من يبقى بعده على قيد الحياة، ويعتقد أن فى ذلك مرضاة واجبة له.. لكن أين ومتى وكيف؟ فى حياة أخرى أو آخرة لا يغتاله الموت فيها قط.. ومن هنا بدأ واستمر النقل من السابق للاحق، والرجوع من اللاحق للسابق، وزيادة الجديد إلى القديم، وتفطين الجديد للقديم، وتسلسل الاتساع فى عقل الآدمى بما نسميه الآن بالنمو والتطور والتحضر والعلوم والآداب والفنون والمهارات والعبقريات والاكتشافات والاختراعات والوثبات والقفزات والثورات التى بها انتقل الإنسان بجسمه إلى الأفلاك.. ليعود منها إلى الأرض ويموت عليها موتاً لا يمحو قفزة العقل ولا يعطلها، بل يشجع على تكرارها وتطويرها من آدميين آخرين يحملون العقل بنفس إمكاناته، وسيستمر هذا العقل قادراً على التجديد والتطور ما دام فى الوجود آدمى يحمله ويحمل إمكاناته ودوافعه وأشواقه.
لكن هل نمو عقل الآدمى سيؤدى إلى ارتياح الآدمى للموت واعتباره نهاية عادية كغروب الشمس لبداية هى ميلاد الآدمى؟.. من الصعب أن نتنبأ. لأن نمو العقل يصحبه نمو العواطف والعلاقات الإنسانية الشخصية، وأى عاقل لا يرضى أو يرتاح لمفارقة الأحباب إلى غير رجعة، بل نستطيع أن نرى بوضوح أن الغالبية الغالبة من الأحياء تكره الموت وربما تكره الإشارة إليه أو تذكرتها به.
وأن تلك العلاقات الإنسانية والعواطف رواية شخصية صرف لا تتحول إلى قيم ومبادئ عامة إلا بعد أن تتشابه باطراد وتعم وتسود وتفقد شخصيتها وخصوصيتها، وتصبح بذلك قابلة للانتقال بالمحاكاة والتعلم عبر الأفراد والأجيال والأجناس.. انتقال المعقولات المجردة.
لكننا مع ذلك نقول من يدرى؟!
هذا ووعى الآدمى هو مرآته للحياة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هذا الوعى تختلف سعته وحجمه على قدر إدراكه لما هو عليه ومعه فى ماضيه وحاضره وتصوره واستشرافه لما سيحدث أو يتمنى أو يخشى حدوثه.. هذا الوعى لا حدّ لنموه كما لا حدّ لضيقه أو ضموره.. يبدأ فى كل آدمى عن جهالة تامة لأنه يولد لوالدين أو محيطين محكوم كل منهما بنسبة وعيه، وينمو منذ الميلاد ومع أطوار العمر وما يصادف الآدمى فيها، ثم ينتهى بانتهاء حياته على قدر ما بلغه فى رحلتها من النمو والاتساع أو الضيق أو الضمور.
يستحيل ابتداءً وانتهاءً أن يكون وعى أى حىّ مطابقاً لواقع الحياة أو لتركيب الكون العظيم.. لأن علم الآدمى، كل آدمى، طارئ غير تام الصحة! قاصر عن إدراك أسرار الكون وأسرار النفس وتضاريس الواقع.. وهذا العلم الذاتى ليس إلا علماً نسبياً راقبه صاحبه وجربه ونجح فيه، فصاغ نجاحه بلغته أو برموزه أو بهما معاً ليتبعه غيره من البشر.. وقد يتكرر نجاحه أو لا يتكرر.. فالنجاح فى حياة البشر مبناها المتبع الغالب لا يُستثنى من ذلك إلا الحتمى اللازم الدائم.
يحدث ذلك رغم أن كل آدمى غارق مستغرق فى نفسه وذاته ثم أهله، اللهم إلا باستثناء قلة نادرة.. ووعى هذه الكثرة مشغول بما عند كل منها عن حاله وصحته ومرضه وصغره وشبابه ورجولته وكهولته وشيخوخته.. حفىٌّ بيومه وغده ومأكله ومشربه ويقظته ونومه ومقره وسكنه.. معنىٌّ بما له وما عليه بالعمل والبطالة وبالمجهود والراحة، وملتفت إلى الإنجاب والفقد والوفاق والخصام وإلى الهيئة التى يتخذها عن اعتقاد بأنها تقدم وتمكن له فى عيون الناس!.. وتسهل له الانتقال والاتصال.. وإلى ما يمكنه اغترافه من المتعة والتزين والرياضة واللهو واللعب، وإلى الانشغال بما لديه أو يطمع فى تحقيقه من القوة والنفوذ والثراء، وما يصيبه من الأمل أو اليأس، ومن السرور والبهجة أو الحزن والغم والخوف!
ومن العسير على جمهور الناس، وإن طالت أعماره واتسعت مسالك تبصره وتعمقه، من العسير أن يخلص الحىّ حياته من غمار هذا الإغراق أو الاستغراق الدائم التدفق والاتساع الذى لم يفلت منه أحد إلا نادر النادر!!
لقد تفاقمت فى أيامنا متاعب البشر بتزايد أعدادهم التى فاقت تصور كل من سبقونا، وتفاقمت معها الاختناقات والآلام نتيجة اختلال التوازن الأولى بين المواليد والوفيات، وتفجرت صراعات وصلت إلى حد القوت والغذاء، واتسعت الأخطار والأوضار إلى حد تعريض البشرية للخطر والهلاك!.. ولم تعد للآدمى وسط هذا الأتون إلا بوصلة وعيه الذى قد تضلله سيئات العادات والأفكار والاعتقادات! هذا الوعى هو صفحة رؤية الآدمى لطريقه، عليه أن يستخلصه ويقطره وينميه ليمتعه ببصيرة نافذة وقدرة خالصة على تعمق الأشياء والاهتداء إلى الحق والصواب!