من يتذكر من جيلنا كيف كانت الأفران فى مصر بين يدى البلقانى، يونانى أو يوغوسلافى، الذى نزح إلى مصر وأحبها وعاش واندمج بين الناس فيها؟ كنا نرى صاحب المخبز، فيما التقطته عدسة يحيى حقى، فى معطف أبيض كأنه طبيب مقبل على جراحة.. أدواته كلها معقمة.. الصاج المرصوص عليه بانتظام أرغفة العيش المغطاة بشاش شفاف أبيض كالفل، والكعك داخل عيون صناديق من وراء ألواح زجاج لامع لا غبار فيه أو عليه.. لا تشترى شيئاً إلا ويلفه لك الخباز فى ورق أبيض رقيق (لا فى مخلَّفات الجرائد الناضحة بالأحبار!)، لا تسمع فى المكان ضجةً ولا لغطاً ولا راديو مفتوحاً على الآخر. من يتذكر هذا سوف يهوله كيف تبدلت حال هذه الأفران، مثلما تبدلت أحوال محلات ومطاعم عديدة فى القاهرة والإسكندرية ومدن بل وقرى مصر حين انتقلت إلى أيدينا، فانقلبت الأحوال.. وسبحان الله، مع أن البلد بلدنا، والخير خيرنا، فإذا بالمعطف الأبيض يتحول إلى جلباب قذر، وبالأرغفة تلقى هنا وهناك بغير انتظام تحط عليها أسراب الذباب، والصناديق المخصصة للكعك والحلويات مكسرة الزجاج مغبرة بالتراب. من لا يصدقنى عليه أن ينتقل إلى أى محل يختار من محلاتنا الكبرى فى وسط المدينة بالقاهرة أو بالإسكندرية، ليرى كيف أن الجمال قد تحول بين أيدينا إلى قبح ودمامة؟!!
لماذا فقدنا إحساسنا بالدومين أو الملك العام؟ لماذا سوّدنا صفحة النيل، واستخدمناه مزبلة للصرف وتلقى جيف الحيوانات النافقة، ومرتعاً لقضاء الحاجة؟!.. لماذا انتهاك حرمة الشوارع والطرقات بالإشغالات وخرق أى نظام؟!. لماذا يستخدم الفرد منا أى مرفق أو خدمة عامة وكأنه آخر من يستعملها؟!.
لماذا تحول الدخول إلى المراحيض العامة إلى رحلة مخيفة من المعاناة يستحيل على الداخل فيها أن يخرج سليماً مما يتعثر فيه من سوء استخدام وتبلد وقلة عناية من سبقوه؟!.. لماذا يتحين كل منا أى فرصة تواتيه لاغتيال الرقعة الزراعية واصطناع الحيل لإخفاء الجرم دون أن ندرك أن هذا الاغتيال «الشخصى» يتحول بالتراكم إلى اغتيال عام وتدمير وانتقاص لأسباب الحياة.. حياتنا؟! ودون أن نلتفت إلى أن حالنا صار كحال القطة التى تأكل بنيها؟!.. لماذا لم يعد يعنى الناس فى بلادنا أن الانفتاح العمرانى إلى خارج وادى النهر إلى الصحراء هو الأمان الحقيقى لى ولك ولنا جميعاً حتى لا نمسى فنجد الرقعة الزراعية قد تآكلت ولم يعد فى مكنة مصر المحروسة أن تمد بنيها من باطن أرضها بما يقتاتون به؟!..
لماذا نبدد ونتلف ممتلكاتنا العامة فى الحدائق والطرقات ووسائل المواصلات دون أن ندرك أنها ملك كل واحد منا؟! وأن الخسارة فيها خسارة لكل واحد منا؟!..
لماذا استسلمنا للقبح، ولم نعد نلتفت إليه، بل صرنا نفرزه ونتذوقه؟!.. لماذا لم نعد نحس بأن ما هو خارج باب سكننا هو أيضاً لنا؟! لماذا صارت حدود المسكن هى آخر حدود الوطن لآحاد الناس؟!!..
لماذا لا نحس بأن نظافة طرقاتنا ومرافقنا مردودة إلينا، منعكسة على عيوننا وأحاسيسنا وأذواقنا؟!.. لماذا صارت عادة من عاداتنا أن نلقى بمخلَّفاتنا فى أى مكان يصادفنا، حتى يئست الدولة نفسها وعادت فى بعض الأماكن، بل بوسط العاصمة، إلى رفع ما كانت قد وضعته أو بنته من أوعية ثابتة لتلقى المخلَّفات؟!..
لماذا فارقنا الالتزام بالنظام، ونتحين الفرص لمخالفته، ولا نبالى.. لا نلتزم إلا بالخوف، وخشية الجزاء؟! لماذا لا ندرك أن إشارات وعلامات المرور هى تنظيم ضرورى ينعكس على عموم الناس بما يجب معه أن يحترمه أفراد الناس دون حاجة إلى شرطى يخيفهم بالمخالفات؟! لماذا صار سلوك الآدمى هو أزمتنا الحقيقية فى كل عمل وكل صرح وكل مشروع؟!..
لماذا أكوام «الزبالة» تملأ نواصى شوارعنا وطرقاتنا وتتزايد، لا نحن نقلع عن مدها بالمزيد، ولا الكناس أو جامع القمامة يعنى بإزالتها، فإن فعل كل حين رفع بعضها على مضض وترك الباقى دون أى إحساس بهذا القبح؟!.. لماذا لا نحس بأن الجيف وغيرها! التى نلقيها فى نيلنا مردودة إلى أجوافنا؟!.. لماذا لا تفلح بل نتلف أى خدمة عامة تخصص للناس؟!.. لماذا لا نحس بأن عوادم السحابة السوداء مردودة فى النهاية إلينا؟.. إلى رئاتنا؟!..
لماذا انغلق المصرى على نفسه وتمحور فى ذاته وأعطى ظهره للآخرين ولكل ما هو عام؟!.. لماذا فقدنا الإحساس بالانتماء الذى جعل منظورنا ضيقاً ضامراً بل ضريراً، لا يرى أن مصر هى وطننا وأمننا وأرضنا ومعاشنا وحاضرنا ومستقبلنا؟!..
إن التعديات على أى رقعة فيها هى تعديات على كل واحد منا؟!..
يبدو لى أن انسلاخ المصرى وانسلاته من الإحساس بالانتماء، قد صار داءً مزمناً يفسر لنا كثيراً من الأمراض والأسقام التى باتت تشوه صفحة حياتنا.. أخطر ما بتنا نعانى منه لفقدان الانتماء أن العنصر الآدمى والخامة البشرية صارا المشكلة الحقيقية التى تهدد كل ما نبنيه أو نسعى لبنائه.. العنصر البشرى بات هو العبء الحقيقى فى أى عمل أو مشروع بعد أن كان عنصر العطاء والإبداع؟!!
ظنى أن ضمور الإحساس بالانتماء هو السبب الجذرى فى كثير من أمراضنا.. وهو السبب فى خفوت وخبو الخامة البشرية وما يعتريها أحياناً من اللا مسئولية أو اللا عناية أو الاستهتار والبلادة والتكاسل وانعدام أو نقص الضمير.
لو كان هذا هو إحساس الموظف أو المستخدم العام أو المكلف بخدمة عامة، لأدرك أنه وضع بمكانه ليكون فى خدمة الناس لا فوق الناس؟!..
كنا نعزو إلى الاحتلال الإنجليزى، ومن قبله الفرنسى، الموقف النفسى المعادى الذى قد يفرز فى اللا وعى خفوت الإحساس بالانتماء، ويخلط لدى العامة الملك الوطنى العام بأداة وجهة ووجه الحكم والاحتلال الأجنبى البغيض، ولكن ما بالنا وقد تزامن رحيل المستعمر الأجنبى مع تمصير الاقتصاد الوطنى منذ منتصف القرن الماضى، لا نزال نقع فى هذا الخلط، ونبقى فى وهدة هذا الإحساس الضامر الضرير بوهن الانتماء..
قد يفلسف اللا وعى الضمور الحالى للإحساس بالانتماء بأسباب ومبررات وتعلات، وقد يكون بعضها صحيحاً، بيد أن هذه الأسباب، أياً كان مقدار نصيبها من الصحة، لا تجيز أن ينحل الضيق بها أو منها إلى تفكك وخفوت شعلة الانتماء للوطن فى الوجدان المصرى.. بل لعل الأقرب إلى تداعيات النفس أن يكون ذلك شاحذاً إلى تعميق الانتماء لتجاوز السلبيات.
ليس هذا كلاماً فى السياسة، وإنما هو انشغال بالوطن وبمصر التى فى خاطرى وفى خاطرك، وغوص إلى الأعماق فى التعرف على همومها ومتاعبها.. أيامنا كنا ندْرس التربية الوطنية، لا الحزبية ولا السياسية ولا الطائفية ولا الفئوية.. التربية المعنية بالوطن وحب الوطن وقضايا الوطن لا سواه.. لم نكن ندخل إلى الفصول الدراسية إلا بعد أن نصطف فى طابور الصباح ونحيى العلم فى جلال واحترام ونهتف من القلب: «تحيا مصر».. لقد دهمتنا أشياء وملمات واختناقات كثيرة لفتتنا عن هذا الجانب «المعنوى» الضرورى المهم فى تربية وبناء الشخصية.. عن إنبات وغلغلة وتعميق حب الوطن وصدق وفاعلية الانتماء له فى صفحة وعينا!!.
انسلات المصرى وتمحوره وانكفاؤه على ذاته، وتنامى ظاهرة الأغلبية الصامتة، مرض حقيقى يحتاج إلى تشخيص جاد وإلى دواء أكثر جدية وصدقاً والتزاماً.. لا عذر لنا فى ضمور انتمائنا، ولا عذر لنا فى القعود أو التكاسل أو الالتفات عن استقصاء أسباب الخلل، ولا فى القعود أو التكاسل عن تجميل حياتنا.. هذا لا يحتاج إلى إنفاق ولا أموال ولا ميزانيات، وإنما يحتاج إلى الجد الذى كان، ويحتاج إلى عزم ونظام، وإلى انتماء عميق يشعر به المصرى.. كل مصرى، أنه بضعة من مصر، همه أن يذوب ولاءً لها.. أن يكون الواحد للكل.. وأن يتحول إلى قوة فاعلة معطاءة لصناعة العمار والحياة والجمال فى ربوعها!