مساء يوم الأحد الموافق العاشر من أبريل الحالى، حللت ضيفاً على القناة الفضائية المصرية، برنامج مباشر من مصر، الذى تقدّمه الإعلامية القديرة إيمان العقاد والإعلامية اللامعة مريم بدر، حيث كان موضوع الحديث عن «الهوية المصرية والشخصية الوطنية». وفى هذا الشأن، وإذا كتبت على محرك البحث «جوجل» عبارة «الهوية المصرية» أو «الهوية الوطنية»، فسوف تظهر لك بعض النتائج، عبارة عن بعض مقالات الرأى المنشورة بالدوريات والمجلات والجرائد اليومية والمواقع الإخبارية الإلكترونية، نذكر منها مقالاً بعنوان «مصر والهوية الوطنية»، ومقالاً ثانياً عن «الوعى والهوية الوطنية فى الجمهورية الجديدة»، ومقالاً ثالثاً تحت عنوان «فى مسألة الهوية»، ومقالاً رابعاً بعنوان «الهوية الوطنية المصرية»، ومقالاً خامساً بعنوان «الهوية المصرية وبناء الشخصية».
ومع ذلك، فإن مفهوم الهوية الوطنية ما زال يكتنفه شىء من الغموض. وعلى حد قول أحد الكتّاب، ومنذ نهاية عصر المصريين القدماء، توالى على مصر الغزاة من كل جنس ولون، وبالتدريج تم تغطية الهوية المصرية بطبقات مختلفة من الهويات، بعضها استمر فترة قصيرة والبعض استمر قروناً طويلة، وتغيرت اللغة عدة مرات وتغيّر دين معظم المصريين أكثر من مرة. وإزاء ذلك، قد يجد المصرى نفسه تائهاً فى مشوار البحث عن الهوية التى تساعده على الانطلاق والتقدّم. وما يسهم فى تعميق هذه الحالة أن البعض قد يعمد إلى تغليب الهوية العربية الإسلامية، عامداً إلى إقصاء الهويات الأخرى. وللأسف فالبعض يسعى لأن يغرس فى أذهان العامة والبسطاء أن كل الفراعنة مشركون كافرون بالله، كما لو كانوا جميعاً فرعون موسى. ويتناسى هؤلاء عن عمد أو عن سهو وتغافل، أن دعوة التوحيد قد نشأت فى مصر الفرعونية على يد إخناتون. وقد ظهر أثر ذلك جلياً فى الاحتفال بموكب المومياوات الملكية، حيث أثار المتشدّدون والمتطرّفون قضية نقل جثث الموتى، مستنكرين ما أطلقوا عليه التمسّح فى ملوك مصر القدماء، باعتبارهم كفرة من وجهة نظرهم. وفى المقابل، دعا البعض إلى العودة للغة الهيروغليفية والتركيز على هوية مصر الفرعونية، دون غيرها من الهويات الأخرى.
وإزاء هذا الاختلاف الذى يصل إلى حد المغالاة والتطرّف فى الرأى، واقتناعاً منى بالدور الذى يمكن أن يلعبه القانون فى ما يمكن أن نطلق عليه «حوكمة الفكر»، نرى من الملائم إلقاء الضوء على بعض نصوص الدستور ذات الصلة. وفى هذا الصدد، قد يرى البعض من المفيد الإشارة إلى مواد الهوية الواردة فى صدر الدستور، لا سيما المادة الثانية من الدستور، بنصها على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع». ومن ثم، فقد يجد البعض فى هذا النص سنداً ونصيراً له فى القول بالهوية العربية الإسلامية دون غيرها. ولكن، وبقراءة المادة السابعة والأربعين من الدستور، نجدها تنص على أن «تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة». وتضيف المادة الخمسون من الدستور ذاته أن «تراث مصر الحضارى والثقافى، المادى والمعنوى، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، وكذا الرصيد الثقافى المعاصر المعمارى والأدبى والفنى بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أىٍّ من ذلك جريمة يعاقِب عليها القانون. وتولى الدولة اهتماماً خاصاً بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر».
وهكذا يُكرس المشرع الدستورى المصرى «الهوية الوطنية الجامعة» لمصر، من خلال القول إن الهوية الثقافية المصرية «ذات روافد حضارية متنوعة». ولم يكتفِ الدستور بذلك، وإنما يؤكد أن تراث مصر الحضارى والثقافى، المادى والمعنوى، «بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى»، المصرية القديمة والقبطية والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية. وبالترتيب على ذلك، كان من الطبيعى أن يلقى المشرع الدستورى على عاتق الدولة التزاماً بأن تولى اهتماماً خاصاً بالحفاظ على مكونات «التعددية الثقافية» فى مصر.
والواقع أن هذه الهوية الوطنية الجامعة هى التى أضفت على مصر مسحة من التسامح والانفتاح وقبول الآخر، وبحيث وجد فيها الكثير من الأجانب ملاذاً وملجأً ومستقراً، فأقاموا على أرضها، وانصهروا فيها مندمجين مع شعبها، فكانوا بذلك مصريى الهوى. فلا غرو إذن أن تجد من الإخوة العرب والأجانب من يهيم حباً فى مصر، مؤكداً عشقه لترابها وأرضها وسمائها، مدافعاً عنها فى مواجهة الفئة الباغية الضالة. وصدق الله العظيم إذ يقول: «ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ». حفظ الله مصر الحبيبة من كل مكروه وسوء.