إن إعلان السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال إفطار الأسرة المصرية، عن إدارة حوار وطنى حول أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة الراهنة، وذلك بالتنسيق مع كافة تيارات وفئات المجتمع، يعد خطوة سياسية هامة فى تاريخ الدولة المصرية.
ومن أهم الموضوعات التى يجب إدراجها فى الحوار الوطنى المرتقب مشكلة الزيادة السكانية غير المنضبطة، وهى المشكلة الأم التى تواجه مصر منذ زمن بعيد، التى إذا بحثنا حول أصول المشكلات التى تواجهنا سنجد أن مشكلة الزيادة السكانية هى المشكلة الأساسية التى تتفرع منها كافة المشكلات فى مصر، وهو ما ذكره وأكد عليه العلامة الراحل الدكتور جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر».
لذلك فإن وضع ملف الزيادة السكانية ضمن أولويات الحوار الوطنى له أهمية قصوى، فهى المشكلة التى إن تم التخطيط لها وحلها ترتب عليها حل معظم المشكلات التى تواجهنا، فالدولة المصرية دخلت فى مواجهة المشكلة السكانية منذ عام ١٩٦٥، أى أن عمر هذه التجربة قد اقترب من ٦٠ عاماً، دون الوصول إلى حل جذرى لها.
ونحن نرى أن نقطة البداية إذا ما طُرحت المشكلة ضمن أجندة الحوار الوطنى أن يتم الإعلان عن «حوكمة ملف السكان»، فإن ذلك من شأنه تعزيز مراقبة الأداء والتأكد أن كل جهة فى الدولة تقوم بالدور المنوط بها فى الاستراتيجية القومية للسكان والتنمية، حيث تعتبر الحوكمة من أهم المتطلبات والضروريات الحتمية التى أضحى تطبيقها أساساً فى الآونة الأخيرة لضمان تنظيم العمل لغرض وضع قواعد ومبادئ لإدارة أى ملف والرقابة عليه، وتطبيق أسلوب الإدارة الرشيدة، وهذا ما نفتقده فى إدارة هذا الملف الهام.
والدليل على ذلك أن الاستراتيجية القومية للسكان والتنمية وضعت خطة للحد من الزيادة السكانية ووضعت الأدوار لكل جهة من شركاء العمل فى هذا الملف ولكن النتيجة ليست المرجوة، فمثلاً كان من المفترض عند وضع أهداف وأنشطة الاستراتيجية القومية للسكان والتنمية (٢٠١٥- ٢٠٣٠) أن يؤدى ذلك إلى وصول عدد سكان مصر فى ٢٠٢٠ إلى ٩٤ مليون نسمة، ولكن الواقع أن عدد السكان فى مصر تجاوز ١٠١ مليون نسمة فى ٢٠٢٠ أى بواقع ٧ ملايين نسمة زيادة عن المخطط.
وكذلك كان المخطط إذا تم تنفيذ الاستراتيجية القومية للسكان أن يصل عدد السكان فى مصر عام ٢٠٣٠ إلى ١١٠ ملايين نسمة، ولكن التوقعات الحالية تشير إلى أن عدد السكان سوف يصل إلى ١١٩ مليون نسمة بحلول ٢٠٣٠، بزيادة ٩ ملايين نسمة عما كان مخططاً له، وهذا يطلق جرس الإنذار ويفرض حوكمة الملف فى أسرع وقت، حيث إن الحوكمة هى نتيجة نهائية لعمليات متعددة الأوجه وطويلة الأمد يجب التخطيط لها جيداً وتنفيذها بعناية، وأن يكون هناك إيمان لدى القائمين على هذا الملف المصيرى لمصر بالأثر الإيجابى لتطبيق المراقبة والمتابعة لضمان الوصول إلى الكفاءة والفاعلية والاستدامة للنتائج المحققة وليس الثبات أو التراجع، وللأسف هذا ما حدث فى التجربة المصرية.
ففى عام ١٩٨٠ كان معدل الإنجاب الكلى فى مصر ٥٫٣ (ومعدل الإنجاب هو متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة فى حياتها كلها)، وفى عام ١٩٩١ كان معدل الإنجاب ٤٫١ وفى عام ٢٠٠٠ حققنا نجاحاً بوصولنا إلى معدل إنجاب يساوى ٣٫٥ وواصلنا النجاح عام ٢٠٠٨، وأصبح معدل الإنجاب الكلى فى مصر ٣، ولكن للأسف بدلاً من الوصول إلى المعدل المتوقع وهو ٢٫٤ حدثت ردة وعدنا مرة أخرى فى عام ٢٠١٤ إلى معدل إنجاب يساوى ٣٫٥ مثل الذى تحقق فى عام ٢٠٠٠ أى أننا لمدة ١٤ عاماً لم نحقق أى تقدم يذكر فى هذا الملف.
وبمتابعة لغة الأرقام نجد أننا وصلنا فى عام ٢٠٢٠ إلى معدل إنجاب يساوى ٣ أى نفس المعدل لعام ٢٠٠٨، ما يعنى أننا فى خلال ١٢ عاماً لم نحقق أى تقدم يذكر.
النقطة الثانية أن يتم الإعلان عن إطار مؤسسى واضح يدير ملف مشكلة الزيادة السكانية، إذ يستطيع الإطار المؤسسى الفعال تنسيق الجهود بين جميع الجهات المعنية بالقضية السكانية، بما يضمن عدم تغير السياسة السكانية المتبعة بتغير الحكومة من ناحية وعدم إهدار الموارد الناتج عن تضارب المصالح وتعارض الجهود من ناحية أخرى، ومن شأن وضع نظام منضبط للمتابعة والتقييم مبنى على مؤشرات أداء حقيقية، وضمان التنفيذ المتوازن لجميع أبعاد القضية السكانية، وألا يقتصر التركيز على البعد العددى وتنظيم الأسرة فقط، ورصد أى قصور على صعيد المؤشرات الاقتصادية والتنموية كالتعليم والصحة وتوزيع السكان واتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة بسرعة، ويؤدى ذلك إلى تنفيذ برنامج سكانى فعال كما نص الدستور المصرى.
على هذا فإن حوكمة ملف السكان ووضع نظام متابعة وتدقيق ومراقبة للحفاظ على المكتسبات والانطلاق بخطوات ثابتة فى هذا الملف الهام هى أولى الخطوات المطلوبة، ويتم ذلك من خلال تنفيذ المقترحات الآتية:
١- إنشاء هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفنى والمالى والإدارى، وتكون تابعة للسيد رئيس الجمهورية لضمان منحهـا عـوامـل القـوة والاستقلال والاستقرار تحت مسمى «الهيئة القومية للسكان والتنمية»، وتحـل الهيئة القومية للسكان والتنمية محـل المجلس القومى للسكان وتؤول إلى الهيئة اختصاصات قطاع السكان بوزارة الصحة والسكان وكل المشروعات المتعلقة بالسكان والتنمية التى تقوم بها الوزارات المختلفة، حيث تبين من الدراسات والإحصاءات السابقة أنه لما كان المجلس القومى للسكان يتبع السيد رئيس الجمهورية كان هناك انخفاض واضح لمعدلات النمو السكانى، وعلى العكس تماماً حينما كانت تبعيته لوزارة الصحة والسكان، نلاحظ زيادة واضحة فى معدل النمو السكانى، وهذا يؤكد أن تكون تبعية الهيئة الجديدة إلى رئيس الجمهورية لضمان تحقيق النتائج المرجوة، وإنشاء هيئة مستقلة من شأنه أن يؤدى إلى:
أ- التخلص من سياسة الجزر المنعزلة التى عانى منها المجلس القومى للسكان وتعددية الأنشطة ذاتها مع وزارات أخرى.
ب - توجيه المخصصات المالية من الموازنة العامة للدولة لتلك الجهة حتى تتمكن من أداء مهامها، وحتى نتفادى تعددية أوجه الصرف من خلال الوزارات المختلفة.
ج- تحديد المسئوليات والصلاحيات لتلك الجهات حتى يتم عمل مؤشرات قياس واضحة، وتتم محاسبتها على تفعيل القرارات وتحقيق الأهداف.
٢- عقد المؤتمر القومى الأول للسكان والتنمية برعاية وحضور رئيس الجمهورية بما يعكس الإرادة السياسية.
ومثلما كان المؤتمر القومى للسكان، الذى عقد فى القاهرة عام 1984 نقطة تحول لمستقبل السكان فى مصر فنحن فى حاجة إلى نقطة تحول أخرى تكون فاصلة فى إنقاذ مصر من خطر الزيادة السكانية وتسخير كل الإمكانيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للخروج من الدائرة المغلقة والسير نحو مستقبل أفضل والارتقاء بالحياة فى شتى المجالات، وأتمنى أن يكون الحوار الوطنى نقطة التحول المنتظرة.
* مقرر المجلس القومى للسكان السابق
أستاذ مساعد النساء والتوليد بقصر العينى