استقالة نواب كتلة رجل الدين مقتدى الصدر التى تشكل الأغلبية فى البرلمان العراقى بناءً على توجيه منه فى أكبر تحدٍّ يواجه نظام الحكم الشيعى فى العراق منذ 2003، وتفتت كتله السياسية، جاءت مقدمة لأحداث كبيرة تزيد التعقيد، إذ وضعت المشهد السياسى أمام واقع جديد سيكون مفتوحاً على جميع الاحتمالات قد تصل إلى تغيير النظام من برلمانى إلى نظام رئاسى أو شبه رئاسى. الخلاف وحرب التصريحات بين مقتدى الصدر وقادة ائتلاف «الإطار التنسيقى الشيعى»، الذى يجمع كتلاً تدين بالولاء لإيران، يدور حول طبيعة العلاقة مع الجار الإقليمى وإعلاء مبدأ السيادة الوطنية والنأى عن الصراعات الإقليمية والدولية التى تنخرط فيها طهران. هذه الخطوة الصادمة خلقت قناعة بين القوى السياسية بأن البرلمان الحالى لن يستمر، وأن مستقبل أى حكومة قادمة دون مشاركة الكتلة الصدرية لن يُكتب لها الاستمرار طويلاً، بل إن الإطار التنسيقى الذى يتظاهر بأنه حقق انتصاراً على مقتدى الصدر يدرك غالبية الأعضاء فيه أن الاستقالات الجماعية للنواب تمثل نهاية للعملية السياسية وتعيد البلد الذى تتقاذفه أزمات اقتصادية واجتماعية إلى دوامة المجهول.
هاجس الغموض السياسى، بالإضافة إلى تعطيل كل الاستحقاقات الدستورية من شأنه التأثير على إنجازات حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى، التى أعادت ربط العراق بمحيطه العربى وتوقيع اتفاقيات بمليارات الدولارات مع «مصر، السعودية، الإمارات، الأردن». تحقيق هذه الاتفاقيات يرتبط بوجود استقرار سياسى.. عراق موحد تحت قيادة واحدة بدلاً من سطوة كتل مرفوضة شعبياً تحاول فرض سيطرتها بقوة الميليشيات المسلحة. إذ ثبُت أن الانتخابات ليست دائماً الخيار الحاسم لمسألة السلطة السياسية فى بلد مقسّم بين نفوذ ميليشيات. ضمن التوقعات المطروحة على الساحة، يبدو السيناريو الأكثر ترجيحاً اتجاه مقتدى الصدر لحشد أتباعه -وهو الأقدر بين كل قادة الكتل على فعل ذلك- نحو ساحات الاحتجاج فى مشهد مماثل لما حدث من احتجاجات شعبية ضخمة شهدها العراق أكتوبر 2019. هذا السيناريو تدعمه حقائق أنه فى حال تشكيل الإطار التنسيقى حكومة، فلن يُقدّر لها الاستمرار أكثر من أشهر قليلة، مع حالة احتقان تسود الشارع على مستوى الخدمات والأمن، مما سيُفاقم حدة الاحتجاجات وزخمها.. كما ستكون أكثر تنظيماً من تظاهرات أكتوبر 2019 كونها بقيادة مقتدى الصدر، بينما أخطر ما تعكسه هذه المخاوف حدوث صدام مسلح بين المتظاهرين وميليشيات مسلحة تتبنى موقفاً معارضاً لمقتدى الصدر.
سلسلة التناقضات التى بدأت تضرب الإطار التنسيقى تؤكد أنه يخشى غياب مقتدى الصدر أكثر من وجوده، إذ بادر الأول فى الإسراع بخطوات تشكيل حكومة وعقد اجتماعات مكثفة مع مختلف الكتل.. فى التوقيت ذاته اندلعت الخلافات بين قادة الإطار، تحديداً بين نورى المالكى، رئيس الوزراء الأسبق، وهادى العامرى، رئيس كتلة الفتح، حول التعامل مع انسحاب مقتدى الصدر من العملية السياسية. محور الانشقاق دار أولاً حول تقبّل الأول انسحاب نواب كتلة الأغلبية وعدم العمل على عودتهم، بينما يخالف الثانى هذا التوجه، محاولاً العمل بقوة على إعادتهم إلى البرلمان، إذ يرى -خلافاً للمالكى- أن أى حكومة قادمة لن يُكتب لها النجاح دون مشاركة كتلة مقتدى الصدر، كما فاقم من تصاعد الخلافات التنافس بين المالكى والعامرى للاستحواذ على منصب رئاسة الوزارة.
مفاجآت مقتدى الصدر لا نهاية لها! إذ يؤكد تاريخ أتباعه أنهم عندما لا ينخرطون فى العملية السياسية، يخرجون إلى الشوارع. المؤشر الأهم الذى فجره موقف مقتدى الصدر كشف حجم الانقسامات داخل البيت الشيعى، مما يعكس تراجع نفوذ وسيطرة أطراف إقليمية على مقاليد ترتيب الأوراق السياسية فى العراق بعدما بذلت هذه الأطراف مساعى دبلوماسية مكثفة خلال الفترة الماضية، لاحتواء هذه الخلافات دون جدوى.
المشهد المعقد ما زال أمام احتمالات مفتوحة، مع بدء ظهور إنذارات من مؤسسات إعلامية موالية لمقتدى الصدر مفادها عدم اعتبار استقالة نواب الكتلة الصدرية أمراً يجعل التيار غير فاعل، وتُذكّر بقدرته على إسقاط أى حكومة يشكلها الإطار التنسيقى فى غضون ساعات قليلة.