الإتمام لفظة جميلة تعوِّد الإنسان على بذل الجهد فى كل حياته، ليصل إلى (الإتمام - الإكمال - الجودة)، وهذا الإتمام يجعل الزائر للبيت الحرام محل نظرة رب العباد، فالحج يشتمل على عبادة بدنية ومالية، وحل وترحال، وأقوال وأفعال، وحركات وسكنات، ومعان وأسرار، ومن أجل ذلك بشّر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعموم المغفرة للحجاج والمعتمرين، فقال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والحج تجديد للحياة (وأتموا الحج والعمرة لله)، فالجذر اللغوى من كلمة الحج تعنى القصد، أى أن الله جعل الإخلاص فى القصد برهاناً على الإيمان (مخلصين له الدين).
والقاسم المشترك فى كل العبادات هو تربية النفس وعمارة الأرض، حتى إنه يمكننا القول إن معظم الشعائر وسيلة وليست غاية فى حد ذاتها، ومقصدها الأسمى تربية النفس وجميل الأخلاق مع كل الناس، لذا فالحج يتضمّن التزامات وأفعالاً تؤدى بمجموعها إلى تربية النفس والإحسان إلى العباد، لأنه يمثل تجرّداً عن المادة، وارتفاعاً نحو مدارج الكمال الروحى، والسمو النفسى، وله أثر قوى فى تطهير النفس من ذمائم الأخلاق، كالغرور والتكبّر والزهو والعجب، وهو ما عبر عنه الإمام على بقوله: «جعله الله علامة لتواضع الناس لعظمته، وإذعانهم لعزته».
ومن الإتمام فى الحج أنه يربطك بالعزة والكرامة والشموخ، تلك المعانى نجدها حينما يقول الحاج: (لبيك اللهم لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك)، فحين يعيش الإنسان هذا المعنى لا يذل نفسه لأحد، ولا يداهن ولا يحسد، ولا يحقد، ولا ييأس، لأنه يعلم أن الرزاق ذا القوة المتين والوهاب المنان المعطى هو الله وحده صاحب الملك على وجه الحقيقة.
ومن مقاصد الحج التوازن فى الحياة (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) فالحج يجمع بين مصالح الفرد الدنيوية والأخروية، فالمسلم يعيش متوازناً، يعبد الله غير منقطع عن الحياة، والتمتّع بلذاتها وما فيها من رفاهية، ثم التعود على النظام والانتظام، فلا أنانية ولا فوضى، فهو يطوف بالكعبة، ويقف بعرفات، ويرمى الجمرات وسط ازدحام شديد، فينمى هذا فيه الرقى فى أمور حياته، وينأى بنفسه عن مواضع الأنانية والفوضى، وينتقل له مقصد النظام والانتظام من الحج ليكون شعاراً له.
وللعدد سبعة فى الطواف مقصد جليل، سبعة أشواط من الطواف، وسبعة من السعى، وسبعة فى رمى الجمرات، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، إنها سباعية الكون، حتى تشعر بالأكوان من حولك، تتلطف بها، وتتعايش معها، وتسعى لخدمتها، وتحترم الإنسان والأكوان والبيئة.
وأخلاقيات بيت الله الحرام الذى يجتمع فيه الخلائق من مختلف الجنسيات واللغات والعرقيات والبلدان والأجناس لا تتسع للمسلم فقط، بل أخلاقيات تسع المسلم وغير المسلم، لا يشعر أحد فى شئون المعاملة بأنه مكره ولا مكروه ولا منبوذ.
وهناك على عرفات الله موقف شريف، فالرحمة تصل من حضرة الجلال إلى جميع الخلق بواسطة القلوب العزيزة، فإذا اجتمعت هممهم، وتجرّدت للضراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله أيديهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة، حدث التعارُف والتواصل، وكان من أعظم الذنوب أن يقف الحاج على جبل عرفات ويعيش مقاصد الحج والإتمام، ثم يظن أن الله لن يغفر له.