بجانب الحزن العميق الذى أصاب الكثيرين فى أرجاء العالم ممن تربطهم صداقة مع الشعب اليابانى، أو من الساسة الذين يكنون لرجل الدولة «شينزو آبى» تقديراً كبيراً، هناك مشاعر الصدمة حاضرة وبقوة، الرجل تولى للمرة الأولى فى العام 2006 منصب رئيس وزراء اليابان، حينها كان أصغر رئيس وزراء يتولى المنصب منذ الحرب العالمية الثانية، ثم لحق ذلك بفترة ثانية من العام 2012 وحتى 2020 فى مدة تُعد الأطول لرئيس وزراء فى شغل المنصب. خاض آبى معركة اقتصادية شهيرة وحاسمة لانتشال الاقتصاد اليابانى من انكماش وركود مزمن، عن طريق انتهاج سياسات جريئة مكونة من ثلاث مراحل أطلق عليها اسم «آبينوميكس»، حققت فى البداية نجاحات ملموسة إلى أن أصابها الإخفاق والتعثر فى 2019 وما بعدها، بسبب جائحة كوفيد 19 وبسبب اشتعال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
الأهم فيما خاضه «شينزو آبى» هو محاولته إخراج اليابان مما سماه «نظام ما بعد الحرب»، فالحرب العالمية الثانية من وجهة نظر آبى وتياره المحافظ المتصاعد فى اليابان جردت اليابان من جوهر اعتزازها بنفسها. لذلك شهدت أجندة آبى طوال سنوات حكمه متغيرات عديدة، فقد عزز الإنفاق الدفاعى سنوياً، ومد يده إلى الدول الآسيوية الأخرى لمواجهة النفوذ المتزايد للصين، وسعى بشكل كبير من أجل إقرار قوانين تسمح لليابان بممارسة حق «الدفاع الجماعى» عن النفس، أو امتلاك قرار تقديم المساعدة العسكرية لحليف يتعرض لهجوم، لهذا ظلت مراجعة الدستور السلمى أولوية قصوى بالنسبة لآبى وإن لم ينجح فى إنفاذها حتى مغادرته منصبه، لكنه بقى على نهجه المحافظ، حيث أكد طوال الوقت أن استعادة التقاليد اليابانية من أهم أهدافه، التى منها تجنب الاعتذار عن تصرفات اليابان فى الحرب العالمية الثانية، وبدلاً عن ذلك أراد أن تحظى اليابان كدولة بالاحترام على المسرح العالمى بالطريقة التى شعر بأنها تستحقها، وفى ذلك انتهج، على سبيل المثال، مواقف متشددة تجاه كوريا الشمالية، فى الوقت الذى خطط فيه بنجاح لتحسين وتعزيز العلاقات مع الصين وكوريا الجنوبية.
الصدمة ما زالت حاضرة جرّاء واقعة اغتيال شخصية سياسية لها هذا الرصيد، فى تلك الواقعة التى شرخت صورة اليابان الراسخة باعتبارها واحدة من أكثر الدول أماناً فى العالم، بل ولديها ترسانة صارمة للغاية من القوانين بشأن الأسلحة واستخداماتها. وقع الهجوم حين كان شينزو آبى يلقى خطاباً فى تجمع انتخابى فى مدينة «نارا الغربية» قبل انتخابات مجلس الشيوخ، منفذ الهجوم «تيتسويا ياماجامى» يبلغ من العمر 41 عاماً. وأقر، بعد توقيفه فى مكان الواقعة، بأنه استهدف آبى عمداً، معترفاً ومعللاً للشرطة أنه كان حاقداً على منظمة اعتقد أن رئيس الوزراء السابق على ارتباط بها. استخدم المهاجم سلاحاً قام بتصنيعه بنفسه وحصل على مكوناته من مواقع الإنترنت، التى تبيع أجزاء يجرى استخدامها فى أكثر من مجال مثل «أسطوانات الصلب الدقيقة»، التى أمكن توظيفها كى تكون ممراً لإطلاق الرصاص، والسلاح المستخدم الذى صوّرته وكالات الأنباء بدا أنه مزود بـ«9 أسطوانات» ويقال إنه يتمتع بتقنيات يمكن بها التحكم فى السلاح عن بُعد كى يقوم بإطلاق النيران على الهدف عبر استخدام الهاتف المحمول!
قائد الشرطة فى منطقة نارا اعترف على الفور بأن هناك ثغرات «لا يمكن إنكارها» فى الإجراءات الأمنية الخاصة برئيس الوزراء اليابانى السابق، وهى التى مثلت سبباً رئيسياً لتمكن المهاجم من التسلل والاقتراب من الخلف لهذه المسافة القريبة، مما سمح له بإخراج سلاحه وإطلاق رصاصتين من مسافة قريبة للغاية، تسببتا فى وفاة آبى قبيل وصوله المستشفى بتأثير النزيف الحاد الذى تعرّض له على الفور. لكن القيادات الأمنية الأكبر عللت ما جرى بأنه عادة لا تكون الإجراءات الأمنية صارمة خلال التجمعات الانتخابية المحلية فى اليابان، حيث يقابل الساسة الجمهور الانتخابى فى أماكن عامة مفتوحة، كما تُعتبر الجرائم العنيفة نادرة بالنظر إلى القوانين المتعلقة بالأسلحة النارية الصارمة جداً. هذا لم يمنع من إجراء تحقيق داخلى واسع المرجح أنه سيدين عدداً من رجال الأمن المسئولين عن تأمين الحدث الانتخابى، فالصور التليفزيونية تشير إلى قلة عدد عناصر الأمن فى موقع الحدث، وبدت غير كافية لتأمين رئيس وزراء سابق. كما أوضحت أيضاً أن رجال الشرطة كان اهتمامهم يتركز بشكل أساسى على ما يحدث فى الأمام، مع إعطاء قليل الاهتمام لما يحدث خلف السيد آبى، مما تسبب فى عدم منع أحد منهم الجانى من الاقتراب لتلك المسافة القاتلة.
«تيتسويا ياماجامى»، العاطل عن العمل، سبق له الخدمة فى البحرية اليابانية لمدة ثلاث سنوات، يرجح أنه خلالها تعرّف بشكل جيد على التعامل مع الأسلحة بل والوصول للعديد من أسرارها. التحقيقات الأمنية الأولية أثبتت عثور رجال الأمن بمحل إقامته على التصميمات الشخصية لياماجامى فى تصنيع الأسلحة، البعض منها باستخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد التى يلزمها إلمام تقنى متقدم كى يمكن توظيفها للوصول إلى هذه المرحلة من إنتاج الأسلحة القادرة على إطلاق النيران على النحو الدقيق والقاتل. كما اعترف الجانى بأن سبب ارتكاب الجريمة له ارتباط بعلاقة ما لشينزو آبى مع منظمة دينية يكنّ لها ياماجامى كراهية شديدة، بسبب ارتباط والدته المهووس بهذه المنظمة أيضاً، مما تسبّب للأسرة فى مشكلات مالية. وقد خطط ياماجامى من قبل لاستخدام قنبلة يدوية فى عملية الاغتيال التى تجهز لها طوال ستة أشهر سابقة، زار خلالها أكثر من موقع استُخدم كلقاء انتخابى لشينزو آبى.
جيران تيتسويا ياماجامى فى الحى والسكن ذكروا للأمن أنه شخص انطوائى بدت عليه أمارات انعزالية حادة وصمت كامل إزاء الجميع خلال العام الأخير، ليصبح المشهد كاشفاً عن «غاضب متوحد» نموذجى يمتلك مهارات تقنية عالية، وإلماماً بكيفية استخدامها فى مجال الأسلحة والذخائر، صدم الشارع اليابانى بهذا الاختراق والفعل الذى يتجاوز الأبعاد الثلاثية بارتكابه تلك الجريمة التى لن تُنسى بسهولة.