يعد الخبز جزءً أساسيًا من روتين الطعام اليومي للإنسان وحياته الاجتماعية والسياسية منذ أقدم العصور، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في أنواع الخبز من دولة إلى أخرى، من حيث نوعه ومكوناته وقيمته الغذائية، إذ يدخل العديد من النباتات في صنع الخبز حول العالم، فالقمح ليس المحصول الوحيد الذي يُصنع منه دقيق الخبز، وإنما يمكن خلطه بمحاصيل أخرى كما يمكن الاستغناء عنه تمامًا في صناعة الخبز.
وعرف المصريين القدماء منذ حوالي 2700 ق.م حوالي 15 نوعا من الخبز بسبب اختراعهم للرحى الدوارة وهي أول نموذج لطاحونة الحبوب آنذاك.
والفجوة الغذائية من القمح هي التحدي الأكبر الذى يواجه المجتمع المصري حاليا ومستقبلا، حيث يتم الاعتماد على الاستيراد لسد الفجوة بين متطلبات الاستهلاك والإنتاج المحلي، مما يشكل عبئا على ميزانية الدولة نتيجة لعملية الاستيراد بالعملة الصعبة، ويستحوذ القمح على النصيب الأكبر من قيمة مخصصات الدعم وذلك لضمان وصول رغيف الخبز بسعر مناسب للمستهلكين.
ولقد أدت الحرب القائمة حاليًّا بين روسيا وأوكرانيا وما خلفته تداعيات الكورونا من أزمة اقتصادية عالمية، بسبب تأثر صادرات القمح من البلدين اللتين تعدان من أهم منتجي القمح عالميا لباقي دول العالم، وفرضت على معظم دول العالم ضرورة التفكير في بدائل وأنظمة جديدة للغذاء. وتعد مصر أكبر مشتر للقمح عالميا، ويأتي ما يفوق 80% من وارداتها من أوكرانيا وروسيا.
لذا سعت الدولة المصرية لطرح العديد من الحلول لتجنب هذه التداعيات، منها على سبيل المثال السعى للاستيراد من دول بديلة، وزيادة المساحات المزروعة بالقمح، وتعظيم إنتاجية الفدان، وتحسين أوضاع تخزينه في الصوامع وتقليل الهدر والفاقد في القمح وكذلك إضافة مكونات جديده لرغيف الخبز يقل فيها الاعتماد على القمح.
وتستهلك مصر يوميا حوالي 300 مليون رغيف خبز مدعم، ويصل إجمالي الأرغفة المستحقة للمستفيدين إلى نحو 120.8 مليار رغيف سنويا، يستفيد منه نحو 72 مليون مصري، واستحواذ هذه المنظومة على أكثر من 50% من إجمالي مخصصات الدعم والتي تقدر بحوالي 90 مليار جنيه سنويا.
وتبلغ احتياجات مصر السنوية من القمح نحو 20 مليون طن، يتم إنتاج حوالي 10 ملايين طن منها، ويعتمد على استيراد الكمية المتبقية.
وكان متوسط سعر طن القمح 260 دولارًا، وارتفع لما يقارب 500 دولار، وظل سعر رغيف الخبز المدعم خمسة قروش ثابتًا منذ 33 عامًا، وهي عملة غير متداولة حاليا في الأسواق عمليا، وتعد أرخص سلعة مدعمة في مصر والشرق الأوسط، بل هو الأقل على المستوى العالمي.
في حين أن التكلفة الحقيقية له تجاوزت 80 قرشا، أي أن الدولة تتحمل ما يزيد عن ثمانون قرشا كدعم مقدم لكل رغيف من الخبز، حيث يحصل المستحقون على 5 أرغفة يوميًا أي 150 رغيفًا شهريًا، والأرغفة التي لا يقوم المواطن بالحصول عليها يقوم باستبدالها بسلع أساسية مقابل 10 قروش للرغيف الواحد، (وهي أيضا عملة غير متداولة عمليا بالأسواق حاليا)، وهو ما يسمى سلع نقاط الخبز، علما بأن 90% من أطفال مصر تحت مظلة الدعم التمويني.
ونظرا للأهمية الشديدة لرغيف الخبز في حياة المصريين، والاعتماد شبه الكامل عليه في كل الوجبات، وجب البحث عن حلول وبدائل أو مكملات منطقية واقتصادية تدخل في صناعة الخبز تستهدف تعظيم الفوائد الصحية له، وتقليل الاعتماد على القمح وخفض استيراده. فالقمح هو الأساس الذى يتم عليه بناء أى إضافات أخرى من الحبوب البديلة، وطرح البعض محاصيل مثل الشعير والذرة وكسر الأرز والبطاطا والكسافا والكينوا لكى تدخل في صناعة الخبز. وكانت هناك عدة محاولات سابقة لتقليل نسبة الاعتماد على القمح في إنتاج رغيف الخبز المدعم، وجميعها تخضع لمعيارين لتحديد مدى صلاحية كل منها كبديل، أولهما الكمية المتوفرة، وثانيهما مدى توفر المعاملة التكنولوجيا المناسبة للتعامل مع هذه البدائل.
تقدر المساحات المزروعة بالقمح بنحو 3.4 مليون فدان (أى ما يقرب من نصف المساحة الشتوية في مصر، وتغطى فقط نصف استهلاكنا) بمتوسط إنتاجية 18 إردبا للفدان الواحد، وهو الأعلى إنتاجية حتى الآن.
وتتراوح نسبة استهلاك الفرد في مصر من منتجات القمح بين 180 و200 كيلوجرام سنويا، رغم أن الكميات الموصى بها من منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في حدود 60 إلى 70 كجم سنويا، أى أن حجم استهلاكنا يصل إلى ثلاثة أضعاف النسبة الموصى بها، ومن المتوقع ارتفاع العجز بين من القمح خلال الموسم الجديد نتيجة للزيادة السنوية في عدد السكان.
الشعير يمكن استخدامه لإنتاج الخبز أيضا، دون حدوث تغيير في الطعم أو اللون، كما يحافظ على نفس القيمة الغذائية والجودة، حيث يحتوي الشعير على نسبة عالية من البروتين والألياف الغذائية والفيتامينات والمعادن ومضادات الأكسدة والسيلينيوم، مما يساعد على رفع أداء أجهزة الجسم المختلفة بما فيها الجهاز المناعي.
والشعير محصول صيفي يحتاج لفترة قصيرة في التربة (حوالي 3 أشهر)، في حين أن القمح يستمر 6 أشهر، ويمكن زراعته في تربة مالحة، ولا يحتاج للكثير من المياه، وهو يتفوق على القمح في معظم القيم الغذائية، وقد تم إجراء دراسة عام 2015، تمت فيها إضافة الشعير بنسب وصلت إلى 30% من مكونات الخبز، وقد لاقي هذا الخليط قبول واسع بين عينة التجربة. وهناك حوالي 100ألف فدان من الشعير تزرع بالمياه الجوفية في شرق العوينات، ويقدر متوسط إنتاجية الفدان بنحو 17 إردبا.
دقيق الذرة هو ناتج طحن حبات الذرة الكاملة المجففة، وقد سبق استخدامه بنسبة 15% خلطا مع دقيق القمح في إنتاج الخبز البلدي حتى عام 2013، حيث نجحت في خفض الاعتماد على القمح كمكون رئيسي، وبالتالي يمكن أن يكون مكمل جيد للقمح لإنتاج الخبز. وهو غني بالألياف والنشا والفيتامينات والمعادن، ويحتوي على نسبة عالية من الفيتامينات والمعادن. والذرة البيضاء يمكن الاستعانة بها لتوافرها بكميات كبيرة.
وقد أعلنت وزارة التموين مؤخرا دراسة إمكانية خلط القمح بالبطاطا البيضاء لإنتاج الخبز وتوفير نسبة كبيرة من القمح سنويا، والاستفادة من تجارب بعض الدول في هذا الشأن، كالبرازيل والهند اللتين تنتجان رغيف خبز من البطاطا ذا قيمة غذائية مرتفعة، ويحتوي على الكثير من العناصر الغذائية المهمة مثل مضادات الأكسدة والفيتامينات والكالسيوم والماغنسيوم، كما أنها منزوعة السكريات وعالية البروتين والكربوهيدرات والنشويات، خالية الجلوتين، وتحسِّن من الصحة العامة.
ومتوسط إنتاج الفدان الواحد من البطاطا حوالي 20 طن بما يعادل إنتاج 10 أفدنة من القمح. وهناك طريقتان لتوظيف البطاطا في منظومة إنتاج رغيف الخبز، الأولى عبر تجفيف البطاطا وطحنها وخلطها مع دقيق القمح بنسب من الممكن أن تصل إلى 30- 40% دون حدوث أي تغيير في لون أو مذاق أو رائحة الخبز، والثانية تتم عبر غسلها جيدا وسلقها وعجنها مباشرة مع دقيق القمح ثم تنقل إلى الأفران ثم تعجن مباشرة مع دقيق القمح، واستكمال باقي عملية إنتاج الخبز، ليخرج رغيف خبز فائق الجودة مستصاغ الطعم واللون والرائحة.
هناك العديد من شعوب العالم يعتمدون على خبز البطاطس الذي يُصنع بطرق متعددة وشهية ويمكن صناعته في المنزل بسهولة. والتركيب الغذائي لحبة البطاطس وزنها 150 جرامًا يفوق ما يوفره رغيف خبز بلدي بالوزن نفسه من الكربوهيدرات والفيتامينات والمعادن، وإنتاج مصر منها مرتفع، حيث يمكن زيادة الاستهلاك الداخلي دون أي مشاكل، كما يمكن رفع الإنتاج أو مضاعفة مساحة البطاطس لتغطية حصة التصدير بالكامل وتوفير حاجة الاستهلاك المحلي، واستخدام البطاطس مكملا للخبز كغذاء يدعم الصحة العامة ويخفض تكلفة إنتاج الخبز.
وينتج دقيق الكسافا من شجيرة معمرة تتكاثر بالعُقل والدرنات، يبلغ وزن الدرنة الواحدة كيلو ونصف الكيلو، أي تتعدى البطاطا ثلاث مرات في الوزن والحجم، يتم تقشيرها وتقطيعها حلقات وتجفيفها في الشمس، ثم تطحن لنحصل منها علي دقيق الكسافا ويمكن إضافتها بواقع 20% من وزن الرغيف، خاصة أن هذه النسب أعطت نفس القيمة الغذائية لرغيف القمح، وهو محصول مهم في كل جوانبه اقتصادياً وإنتاجياً وغذائياً، والتوسع في زراعته سينعكس علي تحسن مستوي الرغيف في مصروهناك ابحاث من 95 دولة حول العالم تستخدم نبات الكسافا في إنتاج دقيق بديل عن دقيق القمح في صناعة الخبز البلدي. هذا وقد تم دراسة إمكانية زراعة الكسافا في مصر بالأراضي الرملية عالية الملوحة والحرارة، وأعطى إنتاجية عالية، إذ ينتج الفدان حوالي 40 طن درنات للفدان، يستخرج منها 20 طن دقيق كسافا.
والكينوا نبات شتوي حولي يطلق عليه لقب أم الحبوب، ويظل في الأرض ما بين 90 يوما للأصناف مبكرة النضج إلى 120 يوما، وهو يتمتع بقدرة تحمل عالية تمكنه من النمو في الأماكن التى تعجز محاصيل أخرى عن النمو فيها، ويمكنه النمو تحت مستويات عالية من الملوحة، ويتحمل تغيرات درجات الحرارة الكبيرة، وتصل إحتياجاته المائية لنصف احتياجات القمح تقريبا.
وقد نجحت تجربة زراعته منذ عام 2005، حيث وصلت إنتاجيته إلى واحد طن للفدان تحت ظروف بيئية قاسية، والكينوا يمكن أن تكون أهم مكمل مثالي للقمح وليس بديلا، ويمكن التوسع في زراعة الكينوا واستخدامها في الخبز أو المعجنات، وبالتالي الحد من استخدام دقيق القمح في المعجنات كما هو متبع في الكثير من الدول وتوجيهه إلى الخبز.
ودقيق الكينوا من أفضل المصادر بالألياف الغذائية ويحتوي على مضادات أكسدة ونسبة كبيرة من البروتين والاحماض الأمينية ونسبة عالية من المعادن والفيتامينات، ولا يحتوي على الكولسترول أو الجلوتين، ونظرا للقيمة الغذائية العالية لهذه الحبوب استخدمته وكالة الفضاء ناسا كغذاء متوازن وكامل لرواد سفن الفضاء، وحاليا هناك عددا من مصانع المعجنات المصرية تعتمد على الكينوا وكذلك يتم تصدير بعض الإنتاج لتفضيل البعض للكينوا المصرية عن نظيرتها من أي دولة أخرى.
وجميع هذه المكملات لا يقارن سعرها بسعر القمح ولا تؤثر على جودة الخبز من حيث المذاق أو الون أو الرائحة، وتفوقت هذه المكملات على القمح في أن فترة صلاحية الخبز المصنع منها مكملا للقمح يمكن أن تستمر أسبوع دون أن يتعرض للفساد أو الجفاف، واحتياجاته لمياه الري أقل من القمح كما أن لها قدرة عالية في الاحتفاظ بخواصها الحيوية والتكنولوجية أثناء التخزين لفترات طويلة، بشكل لا يتوفر لدقيق القمح العادي، وإن كانت قد زادت عنه في توفير عائد اقتصادي زراعته غير مكلفة، وسعر الطن منها حوالي ثلث سعر طن القمح باستثناء دقيق الكينوا، وجميعها يستخرج منه علف جيد للحيوانات، وبهذه الطريقة يمكن القضاء تمامًا على عملية الاستيراد وخفض الاستهلاك غير العادي للخبز ورفع القيمة الغذائية لطعام المواطن المصري، ومن الممكن في غضون ثلاث سنوات أن تتحول مصر إلى واحدة من أكبر الدول المصدرة للدقيق المخلوط العالي القيمة الغذائية والمنخفض التكلفة، حيث تتمتع مصر ببنية تحتية مناسبة من صوامع وأراضي مستصلحة وطرق وموانئ بحرية وجوية واتفاقات اقتصادية دولية متعددة، لتستطيع مصر أن تحول نقاط ضعفها إلى أحد نقاط قوتها وتحول المحنة الغذائية الحالية إلى منحة قوية، وتستعيد مصر مركزها التاريخي كسلة غذاء العالم.
ولتعظيم الاستفادة من عملية ترشيد استهلاك القمح نقترح الآتي:
- التحول من الدعم العيني للدعم النقدي لمنظومة رغيف الخبز، وضم الدعم النقدي لبطاقات برامج المعاشات المختلفة للمستحقين، حيث إن طول العملية التي يصل من خلالها الخبز المدعم للمستفيدين، يساهم في تسرب الدعم طالما أن هناك فروق بين سعر السوق والسعر المدعم، كما أن دعم الخبز يزيد من استهلاكه.
- تشجيع المراكز البحثية لاستنباط أنواع جديده من القمح مقاومة للأمراض، عالية الإنتاجية ويحفظ صحة الانسان.
- التوسع في زراعة القمح الذرة والشعير والبطاطس والبطاطا والكاسافا والكينوا، وتطبيق نظام الزراعة التعاقدية، وهذه المحاصيل محاصيل يمكن أن تساهم بشكل كبير في سد فجوة نقص القمح، خاصة وتكاليفها قليلة وعائدها مرتفع، ويمكن تصديرهم للدول الأخرى التي تعاني من نقص القمح وارتفاع سعره في صورة دقيق متنوع الأصناف والاسعار والاستفادة من إيرادات تصديرها المرتفعة في التوسع في هذه الأنواع والأصناف الجديدة من الدقيق.
- البدء في تصنيع الخبز والمعجنات والمكرونة من الدقيق المخلوط بنسبة 50% من القمح ونسبة لا تقل عن 50% من دقيق الذرة والشعير والبطاطا والكسافا والبطاطس والكينوا لخفض تكلفة رغيف الخبز بنسبة لا تقل عن 50% من التكلفة الحالية، ولترشيد استهلاك القمح، وزيادة التنوع في أصناف الخبز المعروضة للمستهلك وخلق حالة من المنافسة في سعر رغيف الخبز وأشكاله وجودته إلى جانب رفع القيمة الغذائية له والحد من الأمراض المرتبطة باستهلاك دقيق القمح الأبيض، وتشجيع إنتاج الخبز المنزلي، والقضاء على ظاهرة تهريب الدقيق، وتخفيف الأعباء عن كاهل الأسر الفقيرة والمتوسطة الذين يشكل لهم رغيف الخبز مسألة حياة، مع تعميم إضافة المواد الرابطة والمحسنات الغذائية في إعداد الخبز.
- ميكنة منظومة إنتاج الخبر بدء من المطاحن والمخابز وإحكام الرقابة والإشراف عليهم لضمان عدم غش الدقيق ومطابقته للمواصفات، ووقف الهدر والفاقد بالدقيق لخفض تكلفة الإنتاج ورفع جودة الخبز المنتج وضرورة مطابقته للمواصفات الصحية والتموينية.
- الاتجاه إلى الدقيق استخراج 78 % في إنتاج رغيف الخبز الأبيض والمخبوزات، بدلا من دقيق استخراج 72 % أو الدقيق الزيرو، لتقليل فجوة العجز بالقمح، عوضا عن الدقيق استخرج 87.5% الذي تنتوي الحكومة استخراجه.
- توطين تكنولوجيا صناعة الميكنة الزراعية وتعظيم الاستفادة منها في عمليات حصاد ودرس ونقل القمح والمحاصيل الأخرى بالأراضي الجديدة لزيادة الطاقة الإنتاجية للأراضي المنزرعة وتقليل الفاقد أثناء مختلف مراحل التجهيز.
- الوصول للاكتفاء الذاتي من الأعلاف الحيوانية والداجنة أولا، واستعادة الاستقرار في أسواق الحبوب، ولتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وتمصير رغيف الخبز.
أ.د. مجدي الحسيني عليوه، أستاذ العلاج الطبيعي، العميد السابق لكلية التربية الرياضية بجامعة الزقازيق، باحث في التخطيط للتنمية