«مصر ستبقى ممتنة لإسهاماته الوطنية وسيرته الخالدة، التى ستظل محفورة فى تاريخ الوطن بحروف من نور لتحتفظ بمكانتها فى ذاكرة العمل السياسى المصرى بكل تقدير واحترام».
بهذه الكلمات الواضحة والمؤثرة، نعت رئاسة الجمهورية المناضل خالد محيى الدين، الذى رحل عن عالمنا فى 6 مايو 2018 عن عمر 96 عاماً، وجاء مشهد وداعه حيث تقدم مشيعى جنازته العسكرية الرئيس عبدالفتاح السيسى ليؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن مصر تقدر كل من أعطى لها بإخلاص وتجرد، وإن اختلف مع سياسات الأنظمة الحاكمة.
واليوم 17 أغسطس، تمر مائة عام على ميلاد خالد محيى الدين، المولود عام 1922، والذى لم يكن كغيره من الأعوام فى تاريخ مصر المعاصر.. فيه خرج تصريح 28 فبراير.. وأعلنت بريطانيا من خلاله إنهاء حمايتها على مصر مع بقاء قوات الاحتلال لتأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية.. ورفض المصريون هذا الاستقلال المنقوص وتمسكوا بمواصلة النضال لتحرير مصر من الاستعمار.
شاء القدر أن يأتى «خالد» إلى الدنيا ومعه حلم ملايين المصريين بالاستقلال الذى تحقق بعد ثلاثين عاماً على يديه وأيدى رفاقه من الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر فى يوليو 1952.
وشاء القدر لى -كاتب هذه السطور- أن ألتقى بهذه الشخصية الأسطورية، وتستمر علاقتى اليومية به نحو ربع قرن، وكان بالنسبة لى، كما كان للكثيرين، هو الأب والمعلم والقائد.
ربع قرن من العلاقة بين الابن والتلميذ مع شخصية اجتمعت فيها كل الصفات الحميدة، خرجت فيها بالعديد من التجارب الحية والخبرات والدروس، ومن واجبى استعادتها وتقديمها لكل من يسعى لخدمة بلاده، وينقصه فقط السبيل لذلك، أقدمها وقد خالطتها حكايات أخرى عن الرجل من أصدقاء وزملاء آخرين، وما استخلصته من مذكراته التى صدرت عام 1992 بعنوان: «.. والآن أتكلم»، وقد كان لى شرف مراجعتها إملائياً، بما فى ذلك ما تم حذفه منها قبل النشر.
أسس خالد محيى الدين حزب التجمع فى أبريل عام 1976، وفى منتصف ثمانينات القرن الماضى كان لقائى الأول به فى مقر الحزب، قدمنى له والدى كطالب بالثانوية العامة.. وكان الدرس الأول والمهم.
حذرنى زعيم حزب التجمع من إهمال دراستى لحساب العمل السياسى، وقال: لن تكون سياسياً.. ولن يستفيد منك الحزب وأنت فاشل دراسياً، أو غير متحقق فى عملك بعد التخرُّج، واختتم: اهتم بتطوير قدراتك أولاً، والسياسة باقية فى انتظارك ولن تنتهى.
هذه نصيحة أب وليس مجرد رئيس حزب أو زعيم سياسى، وقدرت معنى ما قاله لى على مدى سنوات وأنا أشهد مآسى من جرفتهم ممارسة السياسة إلى دروب الفشل فى تفاصيل حياتهم.
فى سنوات دراستى الجامعية تلقيت الدرس الثانى من خالد محيى الدين كمعلم سياسى قدير.
كلفنى «التجمع» برئاسة وفد طلاب الحزب المشاركين فى مسابقة علمية للطلاب العرب بجامعة ناصر الأممية فى ليبيا، وانتهز النظام الليبى فرصة وجود ما يزيد على 600 طالب عربى، ونظموا مسيرة لمكتب الأمم المتحدة بالعاصمة طرابلس، للمطالبة برفع الحصار الدولى المفروض على ليبيا على خلفية اتهام النظام الليبى بالتورط فى قضية لوكيربى، خلال المسيرة هتف الطلاب ضد كل الحكام العرب، وفور أن بدأ الهتاف ضد الرئيس الراحل حسنى مبارك، اتجهت نحو من يقود هذا التطاول وطالبته بالتوقف عن ذلك، ولم يستجب، مما دفعنى للتشابك معه بالأيدى، وبمجرد عودتنا للقاهرة تقدم أحد أعضاء وفد «التجمع» بمذكرة بالواقعة، مطالباً بفصلى من الحزب لأننى أحرجت شبابه بدفاعى عن الرئيس مبارك، رغم أننى «معارض»، وبعرض الموضوع على خالد محيى الدين كرئيس للحزب، أشاد بموقفى وقال: نحن معارضون فى الداخل، أما فى الخارج فكلنا مصريون، ويجب ألا نسمح لأحد بالتطاول على مصر ورئيسها حتى وإن كنا نعارضه.
مما يروى عن زعيم ومؤسس حزب التجمع نصيحته لأعضاء الحزب بعدم التجاوز فى النقد، والالتزام بالموضوعية لضمان التأثير وإجبار الخصم السياسى على احترام رأيهم، ومن أقواله المأثورة: «أغسل لسانى دائماً بالماء والصابون قبل أن أتكلم».
الكلام عن خالد محيى الدين فى مئوية ميلاده ممتد، ولا يمكن اختزاله فى مقال واحد مهما اجتهدت فى ذلك.. وعلى هذا سنلتقى فى مقالات أخرى.