فقد حاسة البصر في مرحلة مبكرة من طفولته، لكنه حظي بعقل مبصر، ورؤية العقل ممتدة لا حدود لها، لا تعطلها حواجز مادية، ولا تعجزها مسافات حتى لو كانت في اتساع الكون وغموضه، لذا، وعلى الرغم من رحيل المفكر والأديب المصري الكبير الدكتور طه حسين، في مثل هذا الشهر من عام 1973، إلا أنه بقي حاضرا ومؤثرا في عالمنا.
في ذكرى رحيله التاسعة والأربعين، يتجسد طيفه النوراني مبتسما على كرسي ذهبي أعلى منزله الذي تحول إلى متحف عامر بالذكريات والمقتنيات، متخليا عن نظارته السوداء، ينظر عميد الأدب العربي بعينيه المتألقتان ببريق العقلانية، إلى أركان «الرامتان»، الذي قضى فيه أكثر من عقدين من عمره العامر بالعطاء الفكري.
يتوقف قاهر الظلام متأملا مكتبته التي تضم آلاف الكتب، كان في حياته الدنيا يسمع كلماتها بأصوات متباينة، إلى أن تحسن الأمر كثيرا، وبدأ يراها عبر عينان جميلتان، ويسمعها بصوت عذب يريح قلبه، ويضمد جراحه وآلامه، أنه صوت زوجته الفرنسية الراقية سوزان بريسو.
اليوم، في تجليه الأثيري يراها رأي العين.. ينتابه شعور غامر بالسعادة، لأنه في عالمه الجديد المليئ بالرحمات الربانية، والخالي من قسوة البشر، بات مبصرا، لقد رفعت عنه الحجب، وخرج من سجنه «الطيني» الذي عاش مرغما بداخله 83 عاما.
يفكر عميد الأدب العربي مليا، ويقول في نفسه: كم هو جميل أن ترى الأشياء بعينيك، وتتمتع بمطالعة تفاصيلها وألوانها الرائعة، لكن على الرغم من ذلك، فأن للعقل رؤية خارقة تفوق حاسة النظر، تلك الرؤية العقلية تزداد قوة كلما نهل الإنسان من العلم نصيبا أكبر، لذا كان شعاري دائما هو أن «التعليم كالماء والهواء وحق لكل إنسان»، حين توليت مسؤولية التعليم في بلدي الحبيب مصر، وأصبحت وزيرا للمعارف عام 1950، تحول شعاري هذا إلى هدف لا أحيد عنه، وقد وفقني الله إلى تحقيقه.
في الأفق، يظهر طيف عالم الفلك الإيطالي جاليليو جاليلي، مبتسما، كأنه يسمع خواطر المفكر المصري عبر الأثير. يومئ العالم الفذ برأسه مؤيدا لفكرة أن رؤية العقل تفوق الإبصار بالعينين بدرجات كثيرة.
يتذكر جاليليو كيف أن الإنسان رأى الكون بعقله في صورة أوضح وأكثر شمولا مما تراه عيناه، ثم ساعده العقل على اختراع مركبات فضائية لتستحضر له صورا مادية من أعماق الكون.
يمعن جاليليو في ذكرياته: لقد أدرك الإنسان بالعقل المتحرر من الأحكام المسبقة، والنقل الذي يطغى على العقل، ما لم تدركه عيناه، لقد رأى بعقله المتحرر من القيود أن الأرض تدور حول نفسها، وأن الكوكب المستقر الذي يسير عليه بقدميه، هو الذي يدور حول الشمس، وتأكد أن عيناه كانت تخدعه وتخبره بغير الحقيقة.
تلامس ملاحظة عالم الفلك عن تحرر العقل مشاعر العميد، فيتذكر كيف واجه حربا شرسة ومستمرة إلى يومنا هذا، لأنه حاول استخدام نعمة العقل، وبدأ يبحث وفق منهج علمي، متجردا من المسلمات، والإجابات الموروثة.
دلف رينيه ديكارت إلى المشهد، ونظر إلى حسين بحزن شديد. يبدو أن أبو الفلسفة الحديثة أدرك أن المفكر الكبير الحاصل على دكتوراه في الفلسفة من فرنسا، حاول استخدام منهجه في التفكير، ذلك المنهج الذي ساهم بشكل فاعل في نهضة أوروبا علميا وحضاريا.
ربما استشعر الفيلسوف الكبير الذي فارق عالمنا في القرن السابع عشر، أن محاولات قاهر الظلام لاستخدام منهجه في علاج الغشاوة العقلية التي تستشري في وطننا، مثلما كان الحال في أوروبا قبل بضعة قرون، أضافت آلاما جديدة إلى حياة العميد المشبعة بالألم منذ طفولته المبكرة.
علاج الغشاوة التي تراكمت على العقل المصري، تصادم مع مصالح جماعات وأفراد، بعضهم له ثأر شخصي أو حزبي مع المفكر والأديب الكبير، وبعضهم يتاجر في بضاعة لا يشتريها إلا من قضت الغشاوة على رؤيته العقلية تماما، أو صدق بأن العقل البشري كفيف -أو في أحسن الأحوال ضعيف البصر- ويحتاج إلى من يقوده، ولا يصح له أن يفتح عيني عقله وينظر إلى الوجهة التي يتم اقتياده إليها.
يتبسم طه حسين محاولا تخفيف شعور ديكارت بالذنب تجاهه، ويرمق جاليليو بابتسامة صافية، ولسانه حاله يقول: لا تحزنا على فأنا لست متألما، العقل المصري يجلي الغشاوة عن نفسه شيئا فشيء، وجهدي وكتاباتي لم تذهب سدى: ألم ترو أن الكثير من كتبي يتلألأ في طبعات ورقية جديدة وأنيقة، فيما يتم يحمل الشباب نسخها الرقمية مئات الآلاف من المرات عبر الإنترنت.. ابتهجوا، فأنا مبتسم كعادتي، لكن هذه المرة ابتسامتي تنبع من أعماق عقلي وقلبي.