«وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا»! «شهيداً» هنا فى الآية ١٥٩ من سورة النساء بمعنى «شاهد على كفر بنى إسرائيل»، والآية تتكامل مع الآية ١٧١ «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ» ثم الآية ١٧٢ «لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ».
ونلاحظ أن خطاب القرآن قد شرح إيجابيات وسلبيات بنى إسرائيل وكذلك أهل الكتاب كلهم من الآية ١٥٣ «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً»، فكان عقابهم لسؤالهم أن أخذتهم الصاعقة فاحترقوا جميعاً بظلمهم، وبعد أن أحياهم الله من موت الصاعقة عادوا لكفرهم وعبدو عجلاً له خوار فهل هو من صناعة السامرى أم هو عجل آخر هو العجل أبيس المرسوم على معابد الفراعنة، ثم عفا الله عنهم رغم ذلك، ثم كان أعظم سلطان أو معجزة لسيدنا موسى أن رفع الله فوقهم جبل الطور كاملاً فوق رؤوسهم بتهديد من الله مباشرة، «وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا»، ثم ألزمناهم بإجازة يوم السبت «وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِى السَّبْتِ» وهى إجازة اليهود ليتعبّدوا فى معابدهم مثل كنائس الأقباط ومساجد المسلمين.
«ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدمت صوامع (كنائس) وبيع (الأديرة) وصلوات (القلاية التى ينفرد بها كل قسيس وحده دون مشاركة آخرين)»، وهى من طقوس الأقباط حين دخل الروم واليونان والإسكندر مصر، وهى أماكن أديرة حالياً من الدلتا إلى الصعيد. «وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا» أى عهداً مع الله مباشرة، ولكنهم سرعان ما عدوا لكفرهم ورفضوا دخول باب بيت المقدس، فأخفى الله قبر موسى عنهم وأمات موسى بسيناء ولم يدخل بيت المقدس، إذ رفض اليهود دخولها حتى مات موسى، فدخلوا تحت عقب باب من أبواب فلسطين، ويبدو أنه باب بيت المقدس، مدينة القدس القديمة حالياً، ما عدا المسجد الأقصى نفسه دون الحرم القدسى الرابع لم يعرفوه ولم يدخلوه.وهنا استكمل القرآن باقى خطاياهم، إذ قاوموا بعثة عيسى وكفَّروه واعتبروه زنديقاً يخرج عن الناموس الموسوى، حتى قرروا قتله بواسطة يهوذا، فجاء القرآن ليُكمل بعض آيات العهدين القديم والحديث بأن عيسى رفعه الله إليه، وهو ما يؤمن به أهل الإنجيل وأهل القرآن، وجاءت فتنة يهوذا لتفرق بين أنصار سيدنا عيسى، إذ قال الحواريون لسيدنا عيسى «نحن أنصار الله إليك»، وأكد القرآن صحة ديانة الإخوة المسيحيين «وإن من أهل الكتاب (النصارى وبعض اليهود) إلا ليؤمنن به قبل موته».
ويحمل إيمان النصارى هنا صحة إيمانهم لعيسى فى الدنيا وحين قيامته وحين يوم القيامة الخاتمة والكبرى الشاملة لكل الأنبياء والأديان من بدء الخليقة حتى نهاية العالم، سيكون وقتها بعث سيدنا عيسى حياً قبل القيامة ليعيد المسيحية قرينة اليهودية والإسلام، وعقاباً لليهود لإيذائهم سيرة مريم وإيذاء عيسى نفسه بالضرب والطرد ومحاولة القتل، فالآية ١٦٠ تعاقب اليهود فقط دون المسيحيين والمسلمين، «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًاً»، وكلمة «كثيراً» تعنى أن صدَّهم المسيحيين والمسلمين كان متعدداً لا يتوقف حتى قيام الساعة يكيدون المسيحيين والمسلمين.
ومع ذلك فإن الله ينصف اليهود المؤمنين ويعطيهم حقهم فى الآية ١٦٢ «لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون (بالإسلام والمسيحية) أى يؤمنون بما أُنزل إليك (أى القرآن)، وما أُنزل من قبلك (أى الإنجيل)، وهؤلاء عادة يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً».
سورة النساء الآية 160 (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً)، يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة، حرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبى حاتم، قرأ ابن عباس (طيبات كانت أحلت لهم) وهذا التحريم قد يكون قدرياً، بمعنى أنه تعالى قيّضهم لأن تأولوا فى كتابهم، وحرّفوا وبدّلوا أشياء كانت حلالاً لهم، فحرّموها على أنفسهم، تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً، ويُحتمل أن يكون شرعياً بمعنى أنه تعالى حرّم عليهم فى التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) (آل عمران 93).
وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد: أن الجميع من الأطعمة كانت حلالاً لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرّم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة فى التوراة، كما قال فى سورة الأنعام (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام 146) أى: إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولهذا قال (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) أى: صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكذَّبوا عيسى ومحمداً، صلوات الله وسلامه عليهما.
ثم أخبر تعالى أنه حرّم على أهل الكتاب كثيراً من الطيبات التى كانت حلالاً لهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نُهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات التى كانوا بصدد حلها لكونها طيبة، وأما التحريم الذى على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التى تضرهم فى دينهم ودنياهم.
هذا بدلاً من «فبما نقضهم»، والطيبات ما نصه فى قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ، وقدَّم الظلم على التحريم، إذ هو الغرض الذى قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم، وبصدِّهم عن سبيل الله أى وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل، كله تفسير للظلم الذى تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده، وقد مضى فى «آل عمران» أن اختلاف العلماء فى سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها.
قوله عز وجل (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا) وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم (إنا قتلنا المسيح) حرّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم، وهى ما ذُكر فى سورة الأنعام آية 146 فقال (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر) ونظم الآية: فبظلم من الذين هادوا (وهو ما ذكرنا)، وبصدهم (وبصرفهم أنفسهم وغيرهم) عن سبيل الله كثيراً، أى: عن دين الله صداً كثيراً.
قال أبوجعفر: يعنى بذلك جل ثناؤه: فحرّمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذى واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله فى كتابه، طيباتٍ من المآكل وغيرها، كانت لهم حلالاً عقوبة لهم بظلمهم، الذى أخبر الله عنه فى كتابه، عُوقب القوم بظلم ظلموه وبغى بغوه، حُرّمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم، وقوله (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) يعنى: وبصدهم عباد الله عن دينه وسبله التى شرعها لعباده صداً كثيراً، وكان صدهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريف معانيه عن وجوهها، وكان من عظيم ذلك: جحودهم نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم بيان ما قد علموا من أمره لمن جهل أمره من الناس.