لا ينسى العقل الواعي من عمل على حمايته من التغييب، اشتهر الرجل النبيل باسم "قاهر المخدرات"، بعدما قضى على تجارة "الصنف" في مصر، خلال توليه منصب وزير الداخلية في الفترة من 1984-1986.
ولد اللواء أحمد رشدي في مثل هذا اليوم (29 أكتوبر) من عام 1924، وظل طوال حياته التي امتدت لنحو 89 عاما، شرطيا بامتياز، يحارب الجريمة، ويتصدى للخطأ، حتى وإن ضبطه داخل خلجات نفسه.
ملامح صارمة، وقلب جسور، تتملكه الرقة، وتسوده الإنسانية.
ينظر إليه الكثير من زملائه كمعلم، ليس في مجال اختصاصه فحسب، ولكن على المستوى الأخلاقي، وعلى الرغم من ذلك كان يحب أن يجلس في تواضع بمقاعد من يطلبون العلم بشغف.
كل خصلة حميدة يراها في إنسان، يسعى لاكتسابها، وكل عيب يتجسد أمامه في سلوك شخص ما، يفتش عنه في نفسه، فإذا وجد أثرا له، اجتهد في التخلص منه على الفور.
لم يكن ينظر إلى نجاحه في القضاء على أخطر أوكار تجارة المخدرات في منطقة "الباطنية" على أنه إنجازه الشخصي العظيم، كما يراه غالبية المصريين، وكان يقر في خشوع بأن وزارة الداخلية مليئة برجال أدوا واجبهم مثله على أكمل وجه لحماية وطنهم.
أحبه الجميع، حتى من مُلئت صدورهم بالفتن والكراهية، وجدوا أنفسهم مرغمين على إفساح مكان داخل قلوبهم له.
عندما تولى الوزارة، كان أهالي الإرهابيين والمنتمين لتيارات الإسلام السياسي، يعانون بذنب ربما لم يقترفوه، فهم حين يذهبون لزيارة أبنائهم في السجون، كانوا يقفون لساعات طويلة في العراء، في انتظار الإذن لهم بالزيارة، وحين يدخلون للقائهم يمضون وقتا إضافيا منتظرين جلبهم من محابسهم.
خصص رشدي مكانا خاصا ومقاعد لأهالي السجناء، ووضع نظاما يسهل عليهم زيارتهم داخل السجون، وحرص على أن يعامل السجناء بالقانون: لا تعذيب ولا إهانات.
وفي الوقت الذي كان شغله الشاغل حماية أمن المصريين، إلا أنه حين وقعت "أحداث الأمن المركزي" عام 1986، بسبب شائعات لا أساس لها من الصحة، عرض أمنه الشخصي للخطر، وذهب بصدر مكشوف إلى المعسكرات التي كانت تعج بالفوضى والشغب.
حاول اللواء أحمد رشدي التحدث إلى أبناءه من الجنود، لكن صوت الغضب كان يطغى على حديث العقل.
لم يلجأ إلى حل يحمي كرسيه بالوزارة، بل اختار ما يصون وطنه، ويحافظ على حياة جنوده. رفض أن يتحرك جندي واحد لمواجهة زملائه، وحاول أن يقنع الجنود عبر طرق شتى، بأن ما سمعوه هو مجرد شائعات. وحين تيقن أنه لا آذان صاغية، قدم استقالته بنفسه، في واقعة نادرة الحدوث.
عندما غادر الوزارة، حزن الجميع، عدا تجار المخدرات، الذين احتفلوا برحيله، وذبحوا عشرات العجول، ووزعوا صنفا من الحشيش تحت اسم "باي باي رشدي".
كان اللواء أحمد رشدي يبتسم حين يسمع هذه القصة المثيرة للسخرية، ومعه الحق كله، فقد غادر وزارة الداخلية، لكنها بقيت لتقوم بمهامها، بل توسعت في مطاردة تجار المخدرات، ولاحقتهم حتى في سيناء التي ظلت لبعض الوقت بعيدة عن الحضور الأمني، في أعقاب تحريرها، بينما بقي هو نفسه فاتحا بابه أمام الكبير والصغير.
رحل الشرطي النبيل عن عالمنا بجسده، لكنه باق في ذاكرة الوطن وقلب وعقل مواطنيه.