أعربت الدولة التركية، أكثر من مرة خلال الفترة الماضية، عن رغبتها فى تطوير العلاقات مع مصر ومع النظام المصرى.
جاء ذلك فى أكثر من تصريح رسمى على لسان الرئيس التركى رجب أردوغان، وفى عديد من المناسبات المرتبة من خلال وزير الخارجية مولود أوغلو الذى بعث بأكثر من رسالة وصيغة علنية، كى تصل لمسامع المعنيين فى القاهرة، وأخيراً من قبَل كبير مستشارى الرئاسة التركية للسياسة الخارجية إبراهيم كالين.
هذه الشخصيات الثلاث هى المعنية حصرياً وبشكل مباشر بالتعبير عن توجهات السياسة الخارجية التركية، ومن ثم كان هناك فى طيات التصريحات والأحاديث المشار إليها تأكيدات عدة أن هناك إرادة حقيقية توافرت مؤخراً من أجل إزالة أى عقبات تحول دون التوصل إلى صيغ أكثر ملاءمة، تتوافق مع مصالح كلا البلدين على صعيد المسارات العديدة التى تجمعهما.
وبدا أن فريق العمل التركى هذا المعنىّ بالسياسة الخارجية كان وراء مقترح آلية تشكيل وفد تفاوض تركى يجلس مع نظيره المصرى من أجل العمل على استعادة العلاقات بين البلدين.
لكن الخارجية المصرية أبدت قدراً من التحفظ ورصانة استقبال تلك الدعوة، من خلال إضافة توصيف دقيق ومثالى فى حينه، حيث اعتبرت أن جلسات من هذا النوع يجب أن تكون «استكشافية» فى مرحلتها الأولى بالنظر إلى حجم القضايا والإشكاليات العميقة التى شابت العلاقة بين البلدين، خلال سنوات ما بعد ثورة 30 يونيو وترسيخ الدولة المصرية لمشروعها الوطنى، الذى وضع حماية مقتضيات الأمن القومى فى القلب من هذا المشروع، مما استلزم انخراط النظام المصرى فى خطة استراتيجية كبرى، تُعنى فى المقام الأول بامتلاك أدوات وعناصر القوة الشاملة.
وربما فى تلك السنوات المبكرة من عمر ثورة يونيو 2013، كانت التوجهات المصرية محل تشكك وتناقض مع الجانب التركى بصورة أو بأخرى، ولهذا ذهبت أنقرة بعيداً على النحو الذى تسبب فيما جرى، ولسنا فى معرض سرده أو استرجاعه اليوم.
لذلك، ومرة أخرى، أحسنت الخارجية المصرية خلال جلسات التشاور الاستكشافية وهى تتعامل مع الحرص التركى على استعادة العلاقات بصيغة انفتاح إيجابى مقابل، شريطة أن تقوم أنقرة بعملية مراجعة شاملة لتوجهاتها فى المنطقة، بحيث تضع المصالح والمحددات المصرية محل الاعتبار.
وقد خرج للعلن أكثر من مرة تقدير مصرى لما أسفرت عنه تلك الجولات التى جرى البعض منها فى أنقرة وأخرى بالقاهرة، تؤكد أن هناك رغبة وإرادة جديدة تتشكل لدى الجانبين لإرساء مبادئ تتوافق مع مصالح الطرفين، وإن ظلت هناك قضايا عالقة وصفتها الخارجية المصرية بالأساسية، منها ما يتعلق بالوضع فى ليبيا، وهى تتسم فعلياً بهذه الأهمية وتسببت فى إبطاء إحراز تقدم ملموس، فالقاهرة تعتبر ليبيا الواقعة فى جوارها المباشر قضية أمن قومى مصرى لا تقبل فيها أنصاف الحلول، خاصة والمتطلبات المصرية فيها واضحة للعيان، بأن تحظى ليبيا بحالة استقرار سياسى يتوافق عليها الليبيون بأنفسهم من خلال عملية انتخابية، ليس للاحتكام إلى القوة أو السلاح مكان فيها.
هذا باختصار يحقق المصالح المصرية فى الوقت الذى تحترم فيه مصالح الآخرين، ولا تجد فيه تناقضاً مع مصالحها أو مع مصلحة ليبيا العليا.
تركيا ربما ترى الأمر على نحو مغاير، لذلك سعت إلى فرض أمر واقع فى بعض الأمور الجوهرية التى لها علاقة بـ«القضايا الأمنية» والأمور السيادية، وكان من الأوفق انتظار استقرار نظام سياسى منتخب ومستدام يعقب المراحل الانتقالية، قبل الذهاب إلى تكريس حالة الانقسام فى الداخل الليبى الهش.
بعد إعلان «القاهرة»، عبر الخارجية، تحفظاتها وطبيعة القضايا الخلافية، أظن كان هناك تجاوب مصرى لوساطة قطرية أو ما شابه من ترتيب لقاء على مستوى القمة، يجمع الرئيس المصرى بالرئيس التركى على هامش مراسم افتتاح بطولة «كأس العالم»، خاصة أن كلا الرئيسين من المدعوين لحضور هذا الحدث.
ويمكن تصور أن الأمر يلزمه لقاء على هذا المستوى، من أجل تقييم نتائج ومخرجات الجولات الاستكشافية وإعطاء دفعة لاستثمار الانفتاح الإيجابى من الطرفين، من أجل الوصول إلى حلول وتوافقات تبدو أقرب من أى وقت مضى.
فالثابت أن النظام التركى بدأ فى القيام بعملية استدارة حقيقية، من أجل العودة مرة أخرى لصياغة نمط جديد للعلاقة مع الدول الكبرى فى الإقليم، حيث يمثل التوافق معها تأمين للمصالح التركية التى وجدت أنقرة أنها لن تتحقق أو تتكامل إلا بمثل تصحيح من هذا النوع.
ومصر التى تُعد أهم البوابات الرئيسية للمنطقة تمتلك الكثير من الأوراق التى يمكن لتركيا أن تحقق عبرها حجماً كبيراً من الاستفادة، فى حال أزالت من الطريق العقبات والتناقضات التى يمكن الوصول فيها لتسويات، فى ظل المستجدات التى يمر بها العالم ويتأثر بها الإقليم بما فيه الدولتان معاً.
فى قضية غاز شرق المتوسط، والإشكاليات الواقعة فيها تركيا مع كل من اليونان وقبرص، يمكن أن تلعب القاهرة، عبر علاقاتها المتميزة بالدولتين، دوراً محورياً فى الوصول إلى صيغة تعاون تتيح لتركيا تحقيق حلمها بالانضمام للمنتدى الذى ترغب أن تكون عضواً فاعلاً فيه.
هذا يتطلب مرونة تركية وتخلياً عن بعض الخطوات التى قامت بها مؤخراً، وهذا يسير فى حال كان مقابله تحقيق مكاسب فعلية فى ظل أزمة طاقة عالمية، تحتاج إلى أفكار خلاقة يمكنها أن تعظم من مكاسب أطراف الإقليم الرئيسية.
فى نفس الوقت تسجل القاهرة دوماً تحفظها على التدخل فى شئون الدول العربية، خاصة باستخدام القوة المسلحة، مما يلزم بأن تراجع أنقرة تصوراتها فى التعامل مع ساحات عربية بعينها، وأن تتجاوب على نحو إيجابى مع ما يُتصور أن يطرحه الرئيس السيسى الذى أثبت، عبر تجارب عدة مع دول وقضايا كبرى، قدرته على تحقيق قدر كبير من التوازن يخدم مصالح الجميع بشفافية وبراعة، وضعته والدولة المصرية فى مكانة من الثقة والاعتمادية فى الإقليم وعلى المستوى الدولى.