من بين أهم المقولات التى قيلت عن التأثير الكبير لوسائل الإعلام فى إدارة الشأن العام، ما قاله الروائى والمسرحى الأيرلندى الشهير أوسكار وايلد (1854 - 1900)، إذ رأى هذا المثقف المثير للجدل أن «الرئيس فى الولايات المتحدة الأمريكية يحكم لمدة أربع سنوات، أما الصحافة فإنها تحكم إلى الأبد».
يمكن اعتبار ما قاله «وايلد» فى هذا الصدد نوعاً من المبالغة التى يتسم بها الكثير من أقوال الأدباء والمسرحيين، لكن مع ذلك فإن معظم البحوث والدراسات التى اجتهدت فى رصد تأثيرات وسائل الإعلام فى وعى الجمهور وإدراكه لما يحدث حوله، ذهبت إلى أن هذه التأثيرات يمكن أن تكون حاسمة فى كثير من الأحيان.
ويتّفق الباحثون والخبراء المتخصصون على وجود تأثير كبير ومتزايد للمحتوى المقدّم عبر وسائل الإعلام المختلفة فى الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدول؛ وهو أمر زادت حدته مع الانتشار الكبير لوسائل «التواصل الاجتماعى»، والارتفاع المطرد فى أعداد مستخدميها.
وبموازاة هذا التأثير المؤكد، فإن مخاطر كبيرة تنشأ عن إساءة استخدام الوسائط الإعلامية، وعدم الوعى بأساليب التعرّض لها والتعامل معها، وهى مخاطر تتوزع على المجالات المعرفية، والأمنية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها.
لقد التفت المجتمع الدولى لأهمية تعزيز مهارات الأفراد فى التعاطى مع وسائل الإعلام بشكل واضح، اعتباراً من ستينات القرن الماضى، كما أبدت الأمم المتحدة، من خلال منظمة «اليونيسكو» اهتماماً كبيراً بمفهوم «التربية الإعلامية» Media Literacy؛ بوصفه المفهوم الأقدر على تحسين قدرات استخدام وسائل الإعلام وفق معايير وأسس رشيدة.
وفى هذا الإطار، توضح «اليونيسكو» مفهوم «التربية الإعلامية» على النحو التالى:«شهد الناس حول العالم تزايداً كبيراً فى الوصول إلى المعلومة والقدرة على الاتصال. وبينما يعانى البعض من نُدرة المعلومات، يجد البعض الآخر أنفسهم وسط تدفُّق هائل للمحتوى المطبوع، والإذاعى والرقمى.
وتشمل (التربية الإعلامية) والمعلوماتية مجموعة من القدرات للبحث عن المعلومات والمحتوى الإعلامى، وتقييمهما بعين ناقدة، واستخدامهما والمساهمة فيهما بحكمة، ومعرفة حقوق الفرد على الإنترنت، وفهم كيفية مواجهة خطاب الكراهية على الإنترنت والتنمّر الإلكترونى، وفهم القضايا الأخلاقية المرتبطة بالوصول إلى المعلومات واستخدامها، والمشاركة فى الإعلام وتقنيات المعلومات والاتصالات لتعزيز المساواة، وحرية التعبير، والحوار بين الثقافات والأديان، والسلام».
كما تقدم «التربية الإعلامية» إجابات للأسئلة التى نطرحها على أنفسنا فى وقتٍ ما؛ مثل: كيف يمكننا الوصول إلى المحتوى، والبحث عنه، وتقييمه بعين ناقدة، واستخدامه، والمساهمة فيه بحكمة على الإنترنت وبعيداً عنها؟ويبدو أننا فى حاجة ماسة إلى إحياء مفهوم «التربية الإعلامية» راهناً، إذ تعزّز الوقائع حولنا مدى افتقادنا إلى الحد الأدنى من الرُّشد فى تعاطينا مع وسائط الإعلام المختلفة.
وفى الأسبوع الماضى على سبيل المثال، برزت ثلاثة أنماط خاطئة لهذا التعاطى؛ أولها حينما بث أحد المواقع الإلكترونية الخارجية التابعة لتنظيم «الإخوان» خبراً مُفبركاً عن هجوم إرهابى استهدف مدينة القنطرة، وثانيها حين انخرط مستخدمو «السوشيال ميديا» فى سجال عبثى حول قضية «المثلية» ومواقفنا منها، وثالثها ما اتصل بمتابعة أخبار فضائحية تخص فنانتين شهيرتين.
فى مسألة الخبر المفبرك، تبنى كثيرون للأسف صحة الواقعة الخاصة بالهجوم الإرهابى المزعوم، وتداولوا وعلقوا على تفاصيله كأنها حقيقة لا تقبل الشك، مع أن ناقل الخبر لا ينطوى على أى قدر من الثقة أو المهنية، كما أن مصادره كلها كانت مُجهلة.
وفى ما يتعلق بالسجال العبثى الخاص بقضية «المثلية»، فقد ظهر واضحاً أن الحوار بين المتفاعلين ينطلق من دوافع أيديولوجية ومواقف مبدئية محسومة، وينتهى عادة بالشتائم والاتهامات بالاستلاب أو العمالة أو التخلف.
أما الأخبار المتعلقة بالنجمتين الشهيرتين، فقد انطوت على قدر لافت من انتهاك الخصوصية، وجسّدت أنموذجاً واضحاً لإساءة ترتيب أجندة الأولويات.يصعب جداً حصر المزايا الفريدة التى حصلنا عليها من استخداماتنا لوسائط «التواصل الاجتماعى»؛ فقد منحتنا تلك الوسائط أصواتاً ومنابر، ووفّرت لنا كماً كبيراً من المعلومات، وأبقتنا مطلعين على الأحداث المهمة، وفى أقصى درجات تجليها جعلتنا أحياناً جزءاً من هذه الأحداث، أو عاملاً من عوامل التأثير فيها، مهما كانت غريبة أو معقّدة أو بعيدة.
لكن مع تلك الفوائد الضخمة، يبدو أن طريقتنا فى التعامل معها تحمل نذر خطر ومثالب أكبر من قدرتنا على الاحتمال، وأنها بسبب بعض ما تنطوى عليه من عوار، يمكن أن تقوض آليات النقاش الديمقراطى، وأن تصطنع المعلومات أو تشوهها، وصولاً إلى سلب جزء مهم من الوعى العام.
ثمة كثير من القضايا المحلية والدولية المهمة التى تحولت إلى «تريند» Trend شهير على هذه المواقع فى الأيام الفائتة، وهو أمر مفهوم بكل تأكيد، لكن الطريقة التى تم التعامل بها مع هذه القضايا على منصات «التواصل الاجتماعى» كشفت عن عوار كبير.
سيمكنك بكل تأكيد أن تعرف الخلفية السياسية لأى مشارك فى النقاش حول أىٍّ من تلك القضايا على هذه الوسائط بمجرد قراءة «تغريدة» أو «بوست» له، وهذا الأمر يكشف عن نتيجتين مهمتين؛ أولاهما أن المشاركة بإبداء الرأى حول تلك القضايا ليست سوى نوع من الاحتراب الأيديولوجى، وثانيتهما أن تلك الوسائط تحولت إلى منصات دعاية، ولم تستطع أن تحافظ على كونها منصات للنقاش العمومى الذى يستهدف تبادل الآراء والمعلومات، وصولاً إلى تحسين الفهم، وتعميق المشاركة.