الوطن، يا سادة، ليس مجرد جغرافيا محدودة باتجاهاتها الأربعة ننعم بالعيش فيه، ولا تاريخ مبتداه ميلاد سرمدى ومنتهاه حتماً أبدى. إنه - عند عشاقه - قيمة عظيمة تتخطى حدود المكان والزمان وتملأ كل المساحات وكل المسافات التى خبرناها واكتشفناها بكل الوسائل المتاحة على مدار التاريخ الإنسانى.وفى هذا المقام، لحظة أن تصيبنا جرأة الكتابة عن وطن استثنائى كمصر، علينا أن نكون أكثر استعداداً لذلك بمزيد من الحب بل العشق، وكثير من القدرة على استدعاء ما يناسب من مفردات عميقة المدلول، فضلاً عن ضرورة الاتشاح برداء الطُهر لأننا نكتب بحق وجلال عن كنانة المولى فى أرضه.
فى طفولتى المبكرة علمنى أبى - رحمة الله عليه - ضمن حكاويه الدائمة لى ولأشقائى التسعة، حين كان يجمعنا حوله فى معظم ليالينا الريفية على ضوء «لمبة الجاز التاريخية»، أن مصر وطن عظيم ومتفرد، حيث تجلى عليه وحده دون سائر بقاع الدنيا رب العزة والجلال، ولهذا كان أطهرها وأعظمها.
وإليه وحده لجأ السيد المسيح عليه السلام وأمنا مريم البتول والقديس يوسف النجار طالبين الأمان وقد نالوه، وقبل أن يغادر دير المحرق متأهباً للعودة بارك مصر أرضاً وشعباً، ولهذا كان ولا يزال وطناً للسلام.
وقد أعزه الله فى كتبه السماوية واختتم كرمه بالقرآن الكريم ودعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان كنانة الله فى أرضه.وفى شبابنا.. عرفنا معنى تحية العلم وترديد النشيد الوطنى وتحية مصر ثلاث مرات كل صباح بمدارس التربية والتعليم.
وحين كبرنا.. فهمنا بوعى دروس التاريخ العظيم لأجدادنا وكيف سطروا وتركوا ما هو مصدر فخر لنا منذ الفراعنة وحتى نصر أكتوبر ٧٣.
عرفنا معنى الدفاع عن كرامة الوطن وعزته بكل ما نملك، أدركنا أن الثمن كان فى كل مرة غالياً، وقد سددناه على مدار آلاف السنين - وما زلنا - دماً وأرواحاً ومن قوت أجيالنا، تعلمنا مفاهيم ومصطلحات جديدة على أسماعنا تتعلق بالدولة والأمن القومى والسلام وحقوق الإنسان بمعناها الأرحب وقيمة الوفاء للقادة ولجيش مصر العظيم ولكل من قدم بلا تردد فداء للوطن.
تأكدنا من أن هناك ما يسمى بالعقيدة التى يجب أن نملأ بها عقولنا وأرواحنا ونتمسك بها وهى العقيدة الوطنية وتليها العقيدة الدينية وهما متلازمتان، وأن الوطن يظل عظيماً بقدر حرصنا على تنشئة أبنائه على كل ما يجعلهم أقوياء روحياً ونفسياً وعقلياً وجسدياً، وهو أمر يتأتى حتماً بتوفير منظومات ثلاث، وهى منظومة القيم الأخلاقية ومنظومة القيم الوطنية ومنظومة القيم المهنية، ففيها جميعاً الضمانة الحقيقية لصناعة جيل سوى يدرك معنى الوطن ويعمل بجودة أخلاقية ووطنية ومهنية للحفاظ على نعمة الوطن.
والآن، وبعد أن هرمنا، نقولها بإخلاص وأمانة وكامل الوعى بأن الوطن الذى يسكننا عقلاً وروحاً وطن عظيم يجدر بكل من يقتات على أرضه أن يحافظ عليه، خاصة فى ظل التغير الكبير الذى نلمحه قادماً على النظام العالمى (نظام الأمن الكونى - نظام الاقتصاد العالمى) وبالضرورة نحن جزء مهم للغاية فى هذا التغيير ويجب ألا نكتفى باستشرافه بل نسهم فى صناعته.
وقبل أن أغادركم، يهمنى أن أشكر الأصدقاء بجريدة الوطن، وهى إحدى النوافذ المهمة فى الوطن العظيم، على دعوتهم لى.. وفى تقديرى أن هناك مسئولية كبيرة ملقاة على عاتق قادتها، وهى مسئولية التنوير وتقوية الجهاز المناعى للوعى المصرى الذى أصيب بأنيميا الوعى، وكلى ثقة فيهم وفى أدواتهم ومهاراتهم.وفق الله الجميع، وحفظ وطننا العظيم الذى يحقق، بقيادته السياسية، الآن نقلة حضارية مهمة، هى الثانية فى عصره الحديث.