في الأسبوع الماضي، افتتح الرئيس السيسي مدينة المنصورة الجديدة، ورغم ما انطوى عليه هذا المشروع الضخم من أهمية واستدامة، فإن كثيرين لم يدركوا أبعاده، وآخرين استخدموه كأداة للنيل من أداء الدولة في ملف التنمية واستخدام الموارد.
يعكس ذلك ما اصطلح علماء الاتصال على تسميته بـ "أزمة اتصال"؛ إذ تتهافت قدرة الرسائل الاتصالية على الإقناع بأفكار حقيقية وإنجازات ملموسة، وتتضارب الصور في أذهان الجمهور، إلى الحد الذي يمكن عنده أن تنقلب الحقائق أو تبهت إلى درجة كبيرة.
في البداية، تم تعريف التنمية Development في علم الاقتصاد باعتبارها "عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده، وبالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات عن طريق التنظيم المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال".
أما التنمية المستدامة فيمكن تعريفها باعتبارها "عملية التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة".
وتدعو التنمية المستدامة إلى تضافر الجهود من أجل بناء مستقبل للناس ولكوكب الأرض يكون شاملاً للجميع ومستداماً وقادراً على الصمود.
ولا بد لتحقيق التنمية المستدامة من التوفيق بين ثلاثة عناصر أساسية وهي: النمو الاقتصادي، والإدماج الاجتماعي، وحماية البيئة.
وهذه العناصر مترابطة وكلها حاسمة لرفاهية الأفراد والمجتمعات.
يقود ذلك إلى التأكيد على أن التنمية المستدامة عملية مخطط لها ومقصودة لإحداث تغيير ايجابي في نوعية الحياة للأفراد والمجتمعات، من خلال توفير خيارات وفرص أوسع تنعكس على نوعية الحياة واستدامة الموارد للأجيال القادمة والمحافظة على الموارد واستدامتها.
وهذا المفهوم هو أحد المفاهيم التنموية المعاصرة التي تبنتها الأمم المتحدة ووكالاتها التنموية وأخذ ينتشر في العالم منذ أكثر من عقدين.
ويقترح الخبراء دوراً مهماً وحاسماً للإعلام في تعزيز مشروعات التنمية وإحاطة الجمهور المعني علماً بها، ضماناً لتفعيل أثرها واستدامته.
ولكي ينجح هذا الدور، فمن الضروري الحرص على وجود مشروع تنموي واضح تتبناه وسائل الإعلام وتدعو له، بموازاة رسائل اتصالية واضحة وفعالة.
وينبغي أن يتزامن ذلك مع توافر مناخ ديمقراطي يكفل الحوار والمشاركة لكافة القوى السياسية والاجتماعية، وسيتعزز ذلك بتوافر قدر معقول من الحرية والاستقلالية لوسائل الإعلام في التعبير عن وجهة نظرها.
وكلما كانت تلك الوسائل تتحلى بالمصداقية الإعلامية حيث المعالجة الشاملة والمتوازنة المستندة على قاعدة بيانات صحيحة، زاد أثرها وتحسنت معرفة الجمهور بالجهود التنموية.
ولذلك، فثمة ضرورة كبيرة لأن تُعنى وسائل الإعلام بتقديم الإيجابيات والسلبيات دون مبالغة أو تهوين، وأن تتجنب قدر الإمكان تسييس قضايا التنمية، وأن تبتعد عن أسلوب الوعظ والإرشاد والدعاية المباشرة الفجة حتى لا تفقد رسائلها قدراتها التأثيرية.
وثمة ما يتوجب على وسائل الإعلام التقليدية تجنبه في هذا الصدد؛ مثل الإفراط في إثارة الطموحات؛ فعندما يفشل المجتمع في إشباع هذه المطالب والاحتياجات يصاب بإحباط ويفقد الثقة في المنظومة الإعلامية.
وعلى الجانب الآخر، فإن الازدهار المعلوماتي والتكنولوجي حمل معه تحديات كبيرة؛ ومن تلك التحديات اتساع نطاق تأثير "السوشيال ميديا" على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.وتؤكد شواهد موضوعية عديدة هذا الاتجاه، الذي يكرس وسائط "التواصل الاجتماعي" بوصفها المصدر الأكثر نفاذاً وانتشاراً للتزود بالأخبار، وما يصاحبها بالطبع من تحليلات وصور وانطباعات وآراء.
يقود هذا التغيير الجوهري في نمط الأداء الإعلامي المواكب لعملية التنمية المستدامة وآليات التأثير في الجمهور وطبيعة التزود بالرسائل، إلى ضرورة اجتراح آليات جديدة للتعامل مع وضع جديد.
وضمن هذه الآليات ينبغي تشجيع المؤسسات المعنية بفكرة التنمية المستدامة ومشروعاتها الكبرى على إنشاء وسائل الاتصال الخاصة بها على مواقع "السوشيال ميديا"، وتعزيز قدرتها على التواصل عبرها، وتدريب منسوبيها على إنتاج المحتوى بالشكل الفعال والمناسب لطبيعة تلك الوسائط وأولويات جمهورها.
لأسباب تتعلق بتكنولوجيا المعلومات وتغير طبيعة التلقي، باتت الوسائط غير التقليدية وغير النظامية تؤثر تأثيراً كبيراً في حاضر التفاعلات الإعلامية الخاصة بالتنمية المستدامة والمشروعات الكبرى، فيما تتخذ طريقها للهيمنة على مستقبلها.
ويتطلب ذلك ضرورة إيجاد آليات عمل جديدة وتوصيات مستحدثة لمخاطبة القطاع الإعلامي المؤثر راهناً.
من بين ما يجب العمل عليه التدريب على مخاطبة فاعلين جدد غير تقليدين وغير محترفين وربما غير محددي الهوية في قطاع الإعلام الجديد.
ويتطلب الأمر كذلك تعزيز قدرة الفاعلين التقليديين في مجال التنمية المستدامة على إنشاء تعبيرات إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، وترقية أدائهم الاتصالي، وفق متطلبات البث عبر تلك المواقع، وأولويات جمهورها.
سيبقى الوسط الإعلامي التقليدي مهماً لسنوات، ولذلك، فمن الضروري تشجيع القائمين عليه على ضرورة صيانة مبادئ الحرية والاستقلالية والأداء المهني والحرص على إرساء أجندة تحترم أولويات الجمهور وتطرح تساؤلاته.
وسيكون التعاون بين النسقين التقليدي والجديد ضرورياً من أجل تعزيز جهود إحداث التنمية المستدامة وصيانة أهدافها.
إنجاز المشروعات التنموية الكبرى لا يتحقق بمجرد الانتهاء من مقوماتها المادية أو البدء في تشغيلها، لكنه سيحتاج جهوداً اتصالية كبيرة لكي تضحى هذه المشروعات واقعاً ملموساً ومُصدقاً في أذهان الناس.. وهذه وظيفة إعلامية في الأساس.