في أوقات كثيرة تهفو روحي إلى قرية هادئة في قلب دلتا مصر، تنبعث منها رائحة الجنة، فلا يصدر منها ثرثرة المصاطب دون طائل، أو ضجيج الماكينات دون طحين، بل تمتد سواعد آلاف الأسر من أبناءها، نساء ورجال، تغرس وتجني مُنتجاً ذو خصائص مُميزة، يعد المُدخل الرئيس في تصنيع العطور العالمية ذات العبير الآسر للقلوب.
«شبرا بلولة» هي الأكثر صيتاً بين ثلاثين قرية تضمها الحدود الإدارية لمركز قطور بمحافظة الغربية، والتي تستقبل زوارها بين شهري يونيو ونوفمبر من كل عام، برائحة زهر الياسمين الفواح، حيث تُنبت أرضها الطيبة أكثر من نصف إنتاج العالم من هذه الزهرة ـ بحسب الاتحاد الدولي للزيوت والعطور ـ والتي تغدو بعد معالجتها «عجينة الياسمين» تستقطبها مصانع العطور في عواصم العالم، مما يجعل من هذه القرية نموذجاً لمجتمع مُنتج لا يعرف مشكلة البطالة، بل تعيش في عمل دائم.
هذا المحصول ذو الرائحة الكلاسيكية ليس إلا لؤلؤة في طوق الفرص الثمينة ذات المزايا النسبية لمصر في قطاع الزراعة، والتي تظل أكثر الأنشطة التي مارسها المصريون عبر العصور، بفضل شريان الحياة المائي الذي يخترق البلاد من الجنوب إلى الشمال بطول يقارب ألف ميل، حيث تستأثر «الزراعة» بنحو 20% من الأيدي العاملة الوطنية، كما تساهم بنسبة لا يستهان بها في الناتج المحلي الإجمالي، بلغت نحو 15% خلال العام المالي 2022-2021.
ودور قطاع الزراعة لا يقتصر على تأمين سلة الغذاء للاحتياج المحلي والتصدير، بل يعدُ مصدراً مهماً لمدخلات عدد من الصناعات المؤثرة ذات المنتج الوطني صاحب السمعة الطيبة في السوق العالمية، وإذا كنت اتخذ من عجينة الياسمين التي تخرج من حقول مصر لتملأ عبوات أرقى العطور الباريسية، إحدى تلك النماذج التي يمكن القياس عليها، فإن أرض مصر زاخرة بنماذج أخرى لعل أهمها القطن طويل التيلة، ذو الجودة العالية، الذي مازال هدفاً لدور الأزياء العالمية لإنتاج منسوجات قطنية تحمل ماركات عالمية.
إذا كانت مصر تنتج محاصيل تمثل مدخلات لصناعات عالمية عديدة، فلماذا لا نجد لذلك انعكاساً واضحاً على نمو الاقتصاد الوطني؟ يكشف الواقع أن الحلقة المفقودة في هذه القصة ترجع إلى أن العديد من المنتجات الزراعية بمصر مازالت تشق طريقها إلى الأسواق العالمية كمواد خام، تخضع لعمليات التصنيع في الخارج، لتغدو منتجات نهائية ذات قيمة سوقية أعلى مما كانت عليه في صورتها الأولية، ولعلنا نحتاج إلى خطة قومية برؤية تبدأ بجذب الكيانات العالمية لإقامة مصانع لها في مصر، لتتكامل مراحل التصنيع على أرضنا، اعتماداً على تلك المدخلات الوطنية، وصولاً إلى امتلاك القدرة على تصنيع منتج محلي خالص قادر على المنافسة عالمياً.
وإن توطين تلك الصناعات الكبرى على أرض مصر يحقق فائدة متبادلة، حيث تحظى تلك الكيانات العالمية بالعديد من المقومات والمزايا التي تتوافر لها عند الاستثمار في مصر، كما يتحقق لنا زيادة معدلات التشغيل، ونقل الخبرات إلى العمالة الوطنية، والأهم ضخ العملة الصعبة، ولعل الأزمة العالمية الراهنة كاشفة بأن الطريق الذي على مصر اتباعه، هو بناء قاعدة صناعية في قطاعات تنافس على التصدير بهدف جذب العملة الصعبة، كي نعيش الخير المنشود.