«مش هخلي الدبان الأزرق يعرف لك طريق» عبارة نسمعها كثيراً في الحياة العامة، وعلى وجه التحديد في أثناء المشاجرات، حيث يتوعد أحد الطرفين الآخر بالوعيد والهلاك. وقد تسمع هذه العبارة في أحد الأعمال الدرامية، أي في الأفلام والمسلسلات، وتحديداً خلال مشاهد العنف والخطف. فعلى سبيل المثال، وفي أحد الأفلام المصرية، يصور أحد المشاهد شخصاً عملاقاً حاملاً سكيناً، ويقوم بالهجوم على شخص آخر، موجهاً له حديث التهديد والوعيد، قائلاً: «هاقتلك ومش هخلي الذباب الأزرق يعرف لك طريق».
وقد تأتي هذه العبارة في صيغة أخرى، مع بعض الزيادة في المفردات، حيث يمكن أن تأتي صياغتها على النحو التالي: «هخلى الدبان الأزرق ما يعرفلكش طريق جرة». وقد تكون صياغة العبارة التي صارت أحد الأمثال الشعبية هي: «مش هخلي الدبان الأزرق يعرف طريق جثتك». ويمكن إعادة صياغة هذا المثل باللغة العربية الفصحى، بحيث تكون عبارته على النحو التالي: «لن ادع الذباب الأزرق يعرف لك طريق».
ويبدو أن الاعتقاد السائد لدى السواد الأعظم من الناس أن هذه الجملة الشهيرة التي صارت مثلاً مجرد لغة تهديد أسطورية، ليس لها علاقة بالواقع. ولا نغالي إذا قلنا إن الغالبية الساحقة من القائمين على تنفيذ القانون في الدول العربية يغيب عنهم أن ارتباط الذباب الأزرق بجثث الموت أمر حقيقي، وليست مجرد جملة تقال. إذ أثبتت الأبحاث العلمية التي جرت مؤخراً أن الذباب الأزرق لديه قدرات خارقة في الكشف عن مكان الجثث، بل والمساعدة في تحللها أيضاً، بما يسهم في التوصل إلى تحديد وقت حدوث الجريمة على وجه الدقة. إذ تطلق الجثث المتحللة رائحة كريهة، مكونة من خليط معقد من المواد الطيارة، والتي تتغير بزيادة التحلل. ويستطيع الذباب الأزرق اكتشاف هذه الرائحة باستخدام مستقبلات متخصصة عن بعد أكثر من ثلاثة كيلو مترات، حيث يقترب من الجثة متخذاً منها غذاءً له، ويضع بيضه في الفتحات والجروح المفتوحة للجثة، لتخرج أطوار اليرقات التي تتغذى بدورها على الجثة.
والاسم المستخدم في اللغة الإنجليزية للدلالة على هذا النوع من الذباب هو (blue bottle fly). أما الاسم العلمي له، فهو (Calliphora). ويُطلق على هذا النوع من الذباب أيضاً اسم «ذباب المقابر»، وذلك نظراً للارتباط الوثيق بينه وبين الجثث والمقابر.
وبالنظر للارتباط بين الذباب الأزرق وبين جثث الموتى، لذا يعتمد العديد من خبراء المباحث الجنائية على هذا الذباب في كشف جرائم القتل، من خلال تحليل دم الذباب وأطوار وضع البيض وعمره، وهو ما يمكن رجال الطب التشريحى من تحديد وقت ارتكاب جريمة القتل على سبيل التقدير. ولا تقتصر الاستفادة من الذباب الأزرق وغيره من الحشرات على جرائم القتل، وإنما يمتد إلى بعض الجرائم الأخرى. وهكذا، يمكن أن تتحول الحشرات إلى أداة تستخدمها فرق البحث الجنائي لتحديد هوية الجاني، وهو التخصص الذي يعرف باسم «علم الحشرات الجنائي»، لكنه لا يزال غير معروف بدرجة كبيرة في العالم العربي. ويمكن تحديد أهم أوجه استخدام علم الحشرات الجنائي في المجالات الآتية:
تحديد مكان ارتكاب الجريمة: فعلى سبيل المثال، وفي إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، نجحت أجهزة البحث الجنائي وفرق الطب الشرعي التشريحي في استخدام حشرة للكشف عن جريمة قتل. وتتلخص تفاصيل هذه الواقعة في أن أحد الجناة في جريمة قتل ادعى أنها مجرد حادث دهس غير مقصود، ولكن اكتشاف حشرة معينة تعيش في إحدى إمارات الدولة داخل الجثة، أظهر أن الواقعة جريمة قتل حدثت في إمارة أخرى، وأن المتهم قام بعد ارتكاب جريمته بنقل الجثة إلى إمارة دبي. وهكذا، يبدو سائغاً القول إن العثور على نوع معين من الذباب أو الحشرات التي تعيش في منطقة ما في جثة عثر عليها بمنطقة أخرى لا يوجد بها مثل هذا النوع من الحشرات، لهو دليل دامغ على أنه حدث انتقال لجثة المجني عليه من مكان وقوع الجريمة الأصلي، ويمكن بالتالي أن يسهم في سبر أغوار الجريمة والتوصل إلى شخص مرتكبها.
تحديد وقت وقوع الجريمة: وبالإضافة إلى مكان الجريمة، فإن وقت وقوع الجريمة هو معلومة مهمة يمكن أن يساعد الذباب الأزرق في التوصل إليها أيضاً، وقد تقود هذه المعلومة إلى تحديد هوية الجاني. بيان ذلك أن الذباب عندما ينجذب لرائحة الجثث، فإنه يضع البيض الخاص به على الجثة، وهذا البيض يفقس اليرقات، ليخرج من هذه اليرقات حشرة كاملة، ومن خلال العثور على اليرقات مثلاً على الجثة، يمكن حساب الفترة بين وضع البيض وخروج اليرقات، لتحديد وقت حدوث الجريمة.
ويؤكد العلماء أن الحشرات تغزو الجثة بمراحل مختلفة، ولكل مرحلة حشرات خاصة بها، بعضها يغزو الجثة في بداية مرحلة التحلل ومنها ما يغزو الجثة بعد التعفن وتغزوها الخنافس بعد أن تتغوط وتتحلل. وهكذا، وإذا كان علم الطب الشرعي يمكنه تحديد عمر الوفاة خلال 72 ساعة بعد الوفاة، فإن عالم الحشرات يستطيع إضافة مدة أكبر من خلال دراسة الطبيعة الحيوية لحركة الحشرات واكتشاف العديد من الأدلة على وقت الوفاة. وللوصول إلى نتائج دقيقة في هذا الصدد، يجب أن تؤخذ في الاعتبار عوامل عدة، مثل مكان وجود الحشرة، ودرجة حرارة المكان والجثة، وتاريخ الجمع، والطريقة التي تم بها الجمع. وبوجه عام، ثمة أربع أو خمس مراحل لتحلل الجثة، حيث الارتباط بين مرحلة التحلل ونوع الحشرات وعمر الذبابة.
وللوقوف على أهمية تحديد وقت ارتكاب الجريمة، يمكن أن نضرب المثال التالي: قد تُقْدم إحدى الزوجات على جريمة قتل زوجها، محاولة تضليل العدالة بادعاء أنها عادت من خارج البيت لتجده جثة هامدة. ويمكن كشف زيف هذا الادعاء، إذا تم العثور على اليرقات بالجثة. إذ يعني ذلك أن الجريمة وقعت في وقت مبكر جداً عن التوقيت الذي أبلغت عنه الزوجة.
اكتشاف مكان إخفاء جثة القتيل: قد يلجأ القاتل أو أي شخص آخر إلى إخفاء جثة القتيل. وغالباً ما يتم ذلك في غير المقابر المخصصة لدفن الموتى. ومن ثم، فإن تجمع الذباب الأزرق في المكان الذي تم فيه إخفاء الجثة يمكن أن يقود أجهزة البحث الجنائي إلى كشف الجريمة، والإمساك بالتالي بالخيوط الموصلة إلى مرتكبيها.
ويمكن كذلك اكتشاف الجثة التي تم حفظها ونقلها بسهولة، لأن الحشرات لا توجد عليها بسهولة.
تحديد هوية الجاني في جرائم الاغتصاب: وبالإضافة إلى جرائم القتل، يمكن أن تسهم بعض الحشرات في التوصل إلى معرفة الجاني في جرائم الاغتصاب. إذ أن بعض الحشرات يمكن أن تحفظ البصمة الوراثية للجناة في جرائم الاغتصاب، بما يمكن الشرطة من تحديد هوية الجاني. بيان ذلك أنه إذا تم العثور على حشرة في مكان الأعضاء التناسلية للفتاة المغتصبة، فهذه الحشرة قد تكون تغذت على ماء الحياة الخاص بالجاني، ومن ثم يمكن باستخدام بعض الطرق العلمية استخراج الحمض النووي (DNA) الخاص بالجاني من الحشرة ومضاهاته مع المشتبه فيهم، لتحديد هوية الجاني.
الكشف عن مصدر المخدرات: ولا يتوقف دور الحشرات عند حد الكشف عن مرتكبي جرائم القتل والاغتصاب فقط، بل يمكن أيضاً أن تكون مفيدة في الكشف عن بعض جرائم الإتجار في الهيروين، وهو ما حدث في إحدى الوقائع الإجرامية المرتكبة في الولايات المتحدة الأمريكية. إذ ضبطت الشرطة في هذه الواقعة كميات من الهيروين كان يعتقد أن مصدرها إحدى الولايات الأمريكية، ولكن فحصها بدقة أظهر وجود حشرة صغيرة لا تعيش في أمريكا، حيث يعود موطنها إلى إحدى مناطق جمهورية المكسيك، وهو ما أرشد الشرطة وقتها إلى مصدر الهيروين.
تحديد سبب الوفاة واكتشاف جرائم التعاطي المميتة: تشير نتائج دراسات علم الحشرات الجنائي إلى أنه تم تحقيق نمو أسرع لليرقات في الجثة التي تحتوي على الكوكايين.
وهكذا، ومن خلال العرض السابق، يبدو جلياً مدى الأهمية التي يحظى بها علم الحشرات الجنائي في ضبط الجرائم. ومع ذلك، ورغم أهمية هذا العلم، فإن استخدامه لا يزال محدود جداً في العالم العربي، وذلك لغياب الأطباء المدربين عليه، وعدم وجود ثقة كبيرة لدى القائمين على تنفيذ القانون في العديد من الدول العربية في قدرة هذا التخصص على تذليل كثير من الصعاب التي تواجه رجال البحث الجنائي. بل إنهم قد يجهلون تماماً وجود هذا التخصص. ويبقى الصراع بين الخير والشر منذ بداية الخليقة إلى نهاية الحياة الدنيا. وإذا كان الجناة لا يتوقفون عن تطوير قدراتهم والاستفادة من مستجدات العلم والتكنولوجيا، فالأولى أن تبادر أجهزة البحث الجنائي إلى الاستفادة من مقدرات علم الحشرات الجنائي وغيره من العلوم الأخرى، حتى تبقى كلمة الحق والخير هي العليا دائماً. حفظ الله الإنسانية من كل مكروه وسوء.