حطت طائرة رئيس وزراء رومانيا «نيكولاي تشويكا» بمطار القاهرة مطلع هذا الأسبوع، في الزيارة الأولى لرئيس حكومة روماني، لمصر منذ عقدين، بما يُظهر تطلع الحكومتين للسير حثيثاً نحو رفع مستوى التعاون الاقتصادي فوق أرض مُمهدة، تستثمر نتائج زيارتين رئاسيتين، الأولى للرئيس السيسي إلى بوخارست في يونيو 2019، ثم للرئيس «كلاوس يوهانيس» الذي قدم إلى القاهرة في أكتوبر 2021، ثم إلى شرم الشيخ في نوفمبر 2022 حرصاً على المشاركة في قمة «كوب 27».
وإذا كان دارسو العلاقات الدولية، يتساءلون دوماً عن الأسباب قبل تعقب النتائج، فإن الباحث عن سر توقيت هذه الزيارة، لابد له أن يتأمل أولاً الخارطة ليرى أين تقع رومانيا، فيجد حدوداً شمالية تربطها بأوكرانيا، أحد طرفي النزاع الأشهر راهناً، كما أن المُتابع بدقة للشأن العام سيدرك أن رومانيا، ليست البلد الأول في الجوار الأوكراني التي تتقارب معها مصر، حيث سعت خلال السنوات الأخيرة إلى توطيد علاقاتها مع المجر، وبولندا، وبيلاروسيا، ومولدوفا، ضمن خطوات حثيثة شرقاً.
لقد فرضت الأزمة الروسية الأوكرانية آثارها على نسق العلاقات الدولية للعديد من بلدان العالم، خاصة حين ارتبط الأمر بالتبادل التجاري لسلع استراتيجية، كان طرفي الأزمة ـ قبل اندلاعها ـ يُلبيان الجانب الأكبر لاحتياجات العالم منها، ولذا اجتهدت مختلف الدول للبحث عن شركاء جدد، أو تدعيم الروابط مع شركاء حاليين، ويمكن لذلك أن يُفسر الإيقاع المنتظم الذي يتخذه المسار الخارجي لمصر بهذا القدر من التنوع، الاتجاه شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً، أينما تتحرك بوصلة المصلحة الوطنية.
وبرغم تعدد أبواب التعاون التي يطرقها الجانب المصري مع البلدان المجاورة لأوكرانيا راهناً، يظل «القمح والطاقة» ركيزتان أساسيتان لتعزيز التبادل التجاري المشترك، في إطار توسيع قاعدة الدول التي تعتمد عليها مصر لتوفير متطلباتها الماسة، ففيما يتعلق بالقمح، غدت رومانيا على سبيل المثال، ثاني مصدر لواردات مصر من القمح لعام 2022 بواقع 1.3 مليون طن، من إجمالي 9.6 مليون طن حصلت عليه مصر من الخارج خلال العام الماضي، مع مساعٍ رسمية لزيادة كميات القمح المُوردة من هناك إلى السوق المصرية، وبالانتقال إلى الطاقة، فقد شهدت الزيارة الأخيرة لرئيس حكومة رومانيا، توقيع اتفاق مهم لتعميق تعاون بلاده مع مصر فيما يخص إمداد نقل الغاز وتعزيز أمن الطاقة، ولا يتوقف مجالي «القمح والطاقة» عن احتلال أولوية متقدمة على أجندة أية مباحثات بين مصر وبلدان الجوار الأوكراني.
إذا كان ذلك هو السبب، فماذا عن النتائج؟ لاشك أن التقارب بين مصر وبلدان الجوار الأوكراني سيمثلُ خطوة إيجابية نحو بناء وتعزيز شراكات مع تلك البلدان، تخدم كلا الطرفين، بحيث تضمن مصر إمدادات متواصلة من القمح والطاقة، ومجالات أخرى عديدة في ضوء المزايا النسبية لكل بلد، بينما تنجح هذه الدول في شرق أوروبا في تعويض تأثر صادرات أوكرانيا لظروف الحرب، ومن ثم استثمار مصر كبوابة للنفاذ بمنتجاتها المتنوعة - الزراعية والصناعية - إلى الأسواق الأفريقية.
من منظور آخر، فإن التعاون الاقتصادي، يحتاج إلى مناخ هادئ لينمو ويزدهر، ومصر لاعب دولي فاعل قادر على ممارسة دور مؤثر ضمن جهود دولية متعددة تسعى جاهدة لقصر أمد الأزمة المشتعلة هناك، فالجميع يتذكر نداء السلام الذي وجهه الرئيس السيسي، لقادة العالم من أعلى منصة مؤتمر COP27 في نوفمبر 2022 لإنهاء الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، كما نرى نتائج زيارة وزير الخارجية المصري، إلى موسكو نهاية يناير الماضي، التي اتخذت شكل «دبلوماسية الوساطة» سعياً لوضع حدٍ لمواجهة عسكرية تأثر بها العالم، ولعل الأكثر تطلعاً لذلك بلدان الجوار الأوكراني التي لا تنضوي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، وينشدون بجانب التعاون الاقتصادي مع مصر، لروابط دولية تُعزز مواقفهم وسط أزمة عالمية آن لها أن تهدأ.