التضامن الاجتماعي هو أحد المقومات الأساسية للمجتمع، وتحديداً المقومات الاجتماعية له. فوفقاً للمادة الثامنة من الدستور المصرى لعام 2014م، «يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعى. وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير سبل التكافل الاجتماعى، بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين، على النحو الذى ينظمه القانون».
والواقع أن الدستور المصرى لم ينفرد باعتبار التضامن الاجتماعى أحد المقومات الاجتماعية الأساسية، وإنما يشترك معه فى ذلك العديد من دساتير الدول العربية. فعلى سبيل المثال، وطبقاً للمادة الرابعة عشرة من دستور الإمارات العربية المتحدة، «المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والطمأنينة، وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين، من دعامات المجتمع والتعاضد والتراحم صلة وثيقة بينهم».
وهكذا، يمثل التضامن الاجتماعى إحدى القيم الأساسية فى جميع المجتمعات، ويعتبر من الأهداف الأساسية التى تسعى المنظومة الاجتماعية لتحقيقها فى سبيل الوصول لمجتمع مترابط ومتماسك. فالتضامن الاجتماعى مظهر من مظاهر التعاون الاجتماعى بين البشر، وفيه تحقيق لبعض صور التّكافل الاجتماعى، وتعزيز لقيمة التعاون بين أفراد المجتمع. وللتّضامن الاجتماعى مظاهر متعدّدة، يتبلور مفهومه من خلالها، وتترتّب عليه آثار عظيمة سواء فيما يتعلق بالفرد أو بالمجتمع كل.
ويعتمد مبدأ التضامن أو التكافل الاجتماعى على الحد والتخفيف من انتشار بعض المظاهر ذات التأثير والنتائج السلبية على الإنسان مثل الجوع والفقر والبطالة والأمراض، وذلك بإقامة بعض الجمعيات التعاونية والمستشفيات والمدارس ومساعدة القوى للضعيف والغنى للفقير والشباب لكبار السن أو المرضى.
وتدل مادة «كفل» لغوياً على عدة معان، منها الرعاية والإنفاق والضمان والنصيب والمثل. وكلمة التكافل تشير إلى أن مسئولية الرعاية مشتركة بين أفراد الأمة كلها كالتشاور والتراحم والتضامن والتعاون، وسوى ذلك مما تدل عليه صيغة التفاعل.وقد يعتقد البعض خطأ أن التكافل مسئولية الغنى تجاه الفقير والقوى تجاه الضعيف.
والحق أن التكافل مسئولية الجميع، كل حسب قدرته، وما ييسر له من الطاقات والإمكانات، وإلى هذا المعنى ينبه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه تأكيداً لمعنى يشد بعضه بعضاً.والقرآن الكريم حين يقرر: «إنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إخْوَة» (الحجرات: آية 10)، فإنما يقرر أن بينهم تكافلاً وتضامناً فى المشاعر والأحاسيس وفى المطالب والحاجات، وفى المنازل والكرامات، وذلك لأن إعلان الإخاء بين أفراد مجتمع ما هو تقرير للتكافل بهذا المعنى الشامل الذى يعبر عن وحدة الأمة أصدق تعبير، ويؤكد أنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ويؤكد ذلك أن الشارع الحكيم فرض زكاة الفطر على المسلم، ولو كان هو نفسه مستحقاً للزكاة، تعويداً له على البذل والعطاء.وما دام التكافل فى الإسلام على هذا النحو من الشمول، وما دام مسئولية مشتركة بين الجميع؛ فإنه لا يكون مقصوراً على الجانب المادى فى حياة الأمة، كما لا يكون إحساناً وتفضلاً كما قد يظن بعض الناس، وإنما هو حق واجب، وفريضة مشروعة، وهو أيضاً تكافل يتجاوز الحاجات المادية إلى سائر جوانب الحياة الإنسانية؛ لأنها -بما تشتمل عليه من قيم يحرص الإسلام عليها أبلغ الحرص- تحفظ على الأمة صدق إيمانها وسمو مشاعرها ومتانة الصلة بين أفرادها.
ويلعب التضامن الاجتماعى دور الحلقة الأهم فى بناء الحضارات على أسس تشاركية، بما يقود إلى تعزيز الوحدة واللحمة الاجتماعية، ويؤدى فى نهاية المطاف إلى تعزيز الأمن القومى وتقويته فى مواجهة حروب الجيل الرابع التى انتشرت فى الوقت الحالى، وصارت بديلاً أكثر فتكاً فى بعض الأحيان من الحروب التقليدية.
ويتجسد التضامن الاجتماعى فى عدة مظاهر، لعل أهمها هو تقديم المساعدة للآخرين، ويكون ذلك من خلال مساندة الإنسان لأخيه الإنسان وتقديم العون للفقراء والمحتاجين أو ذوى الاحتياجات الخاصّة. ويسهم ذلك بلا شك فى تعزيز وانتشار روح التعاضد والتكافل والتراحم بين مختلف فئات المجتمع، ويقلل من المشاعر السلبية والحقد والحسد بين أفراده.
وبالإضافة إلى هذه الصورة الأبرز للعمل الخيرى أو للتضامن الاجتماعى، ثمة صورة أخرى لا تقل أهمية، وهى التطوع، حيث يحمل المتطوع رسالة لغيره تتضمن أهداف التضامن ونتائجه ويكون قدوة له مما يحفز الآخرين على التشارك والتعاضد لبناء مجتمع متقدم خالٍ من المشكلات، ويكون ذلك بتشكيل فرق أو جماعات ووضع أهداف مشتركة وتحقيقها، مثل المساعدة فى البناء أو زراعة الأشجار.
ومن نماذج التضامن الاجتماعى أيضاً، يمكن أن نذكر صورة الدعم للقضايا الإنسانية، أو ما يطلق عليه «شهامة أبناء البلد». فلا نغالى إذن إذا قلنا إن من أهم مظاهر التضامن فى المجتمع هو الوقوف إلى جانب المظلومين أو الأشخاص المعرّضين للتنمر والإساءة بسبب ضعفهم، خاصةً الأطفال ومساعدتهم فى التخلص من العنف الأسرى أو التنمر الاجتماعى، وكذلك إنصاف المرأة من خلال الدعم الذى تقدمه جمعيات حقوق المرأة المنتشرة فى كافة المجتمعات.
ومن صور التضامن الاجتماعى أيضاً، يمكن أن نذكر تقديم الدعم لبعض القضايا المجتمعية، أى القضايا الكبيرة التى تخص فئات كبيرة من المجتمع، كما هو الشأن بالنسبة للقضاء على ظاهرة التشرد أو التسول والقضاء على المساكن العشوائية.
وإدراكاً لأهمية التضامن فى حياة المجتمعات وتحقيق السلم وصون الأمن الدولى فى العالم أجمع، أعلنت الأمم المتحدة يوم العشرين من شهر ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للتضامن الاجتماعى، محفزةً بذلك تبنى القضايا الاجتماعية الصغيرة والكبيرة ومعالجتها ورفع مستوى الوعى الاجتماعى.
ويعتبر اليوم الدولى للتضامن مناسبة عالمية لتذكير الدول وتنبيهها إلى التزامها بالاتفاقات الحكومية والدولية التى عقدتها، كما يعد يوماً للتشجيع والتحفيز على ابتكار طرق وسبل جديدة للقضاء على المظاهر الاجتماعية السلبية. وهو كذلك يوم لرفع راية الوحدة وتوحيد جميع الطبقات والأديان والحكومات فى مجال التنوع الاجتماعى وإحياء العدالة الاجتماعية. و«اليوم العالمى للتضامن الاجتماعى» هو أيضاً يوم لفهم الإنسان لأهمية التضامن الاجتماعى وقدرته على رفع المستوى الاجتماعى.
ومن خلال كل ما سبق، يتحقق الهدف الأسمى من وراء الاحتفال بهذا اليوم العالمى باعتباره يوماً لتعزيز ثقافة وروح المشاركة وتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية وضمان الكرامة للجميع.وقد يعتقد البعض أن التضامن الاجتماعى قد تأثر سلباً فى ظل العصر الرقمى وغلبة علاقات العالم الافتراضى على العلاقات الواقعية، وبحيث غدا الفرد يمضى فى العالم الافتراضى أكثر بكثير مما يقضى فى العلاقات الشخصية والتواصل المباشر مع أقرانه وأفراد أسرته وعائلته.
ومع ذلك، فإن ثمة وجهاً آخر إيجابياً لتأثير الرقمنة على التضامن الاجتماعى. إذ يمكن أن تسهم الوسائل الرقمية فى تعزيز الشفافية فى العمل الخيرى. والواقع أن ما دفعنى لهذا القول هو تجربة شخصية مررت بها مؤخراً. ففى الثانى من شهر يناير الماضى، وفى مدينة أبوظبى، توفى إلى رحمة الله تعالى الزميل العزيز الأستاذ الدكتور محمود عبدالحكم، أستاذ القانون المدنى بكلية الشريعة والقانون بدمنهور والمعار آنذاك إلى كلية القانون بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا بدولة الإمارات العربية المتحدة.
وبمجرد وفاته، وكنوع من العرفان بالجميل إزاء أستاذهم، قام طلبة كلية القانون بجامعة العين بالتواصل مع جمعية دار البر الخيرية فى دولة الإمارات العربية المتحدة، من أجل التبرع ببناء مسجد، صدقة على روحه الكريمة الطاهرة، وبحيث يتم بناء هذا المسجد فى دولة بوركينا فاسو الواقعة فى قارة أفريقيا، ويحمل هذا المسجد اسم الفقيد الكريم.
ولعل ما أدهشنى وأعجبنى حقاً فى هذا العمل هو أن الجمعية الخيرية قد قامت بإنشاء رابط إلكترونى للتبرع لهذا العمل الخيرى، بحيث تضمنت الصفحة الإلكترونية تحديد مواصفات المسجد ومساحته ونوع الطوب الذى يتم به البناء ونوع الأساسات، وتحديد الارتفاعات ونوع الفرش وما إذا كان المسجد بمنارة أم لا، وعدد الحمامات والمصاحف والتأكيد على وجود لوح شمسى للإنارة، متبعين كل هذه البيانات والمعلومات بتحديد تكلفة بناء المسجد، مع التأكيد على أن المصلى سيكون مخصصاً فقط لأداء الصلوات، دون إقامة صلاة الجمعة.
ومع تحديد تكلفة بناء المسجد، يوجد رابط يتضمن بثاً مباشراً لكل تبرع يتم من أجل بناء هذا المسجد، وبيان المبلغ الإجمالى لما تم التبرع به لحظة بلحظة وتحديد المبلغ المتبقى حتى تمام المبلغ الإجمالى لبناء المسجد. وتظهر كل هذه المعلومات مباشرة وبشكل فورى وآن أمام كل من يدخل على الرابط الإلكترونى.
وبمجرد اكتمال المبلغ المحدد، ظهرت عبارة (اكتمل المبلغ المطلوب لهذا المشروع)، وبحيث لا يتم قبول أى تبرعات أخرى له.ولا شك فى أن هذه الطريقة تشجع على انتشار ثقافة العمل الخيرى، وتؤدى إلى منع كل صور الفساد الذى قد يستغله البعض، والتى قد تجعل البعض يشكك فى وصول الأموال المتبرع بها إلى مستحقيها، كما حدث فى العديد من المشروعات والأعمال الخيرية التى ثارت حولها الشبهات، وبما قد يقود فى النهاية إلى إحجام البعض عن التبرع بأموالهم، خشية وخوفاً من أن يستولى عليها من لا يستحقونها. والله من وراء القصد.