ثلاث آيات فى كتاب الله حثت على التقوى، الثالثة منها هى آية الصيام، فقد جاء فى كتاب الله: (وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، هذه التقوى حفظ الله بها المجتمع من القتل والإرهاب والدمار والخراب والمظالم، ثم جاءت التقوى فى قوله تعالى: (حَقاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)، وهذه التقوى حفظ الله بها الأسرة من العقوق والمظالم والجور وأكل الحقوق، ثم جاءت التقوى الثالثة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، لتحفظ النفس من باطن الإثم، وتملأ القلب نوراً ويقيناً وإيماناً ورضا وسكينة وإنسانية وجمالاً.فهى آيات ثلاث مرتبة: فيها حفظ المجتمع بالقصاص، ثم حفظ الأسرة بالتواصى والبر، ثم حفظ النفس بالصيام، حفظها من باطن الإثم الذى هو الخطر الأكبر الذى يهدد أمة الإسلام.
﴿وذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾، وظاهر الإثم، كالقتل والسرقة، وجميع الناس يعرفونه، لكن (باطن الإثم)، وهو الحقد والحسد والغيرة والعصبية والبحث عن اللقطة والشهرة، وتقديس النفس، ومن آثار (باطن الإثم): النزعة الفردية والعصبية العائلية، حتى يجعل الشخصُ ولاءه لنفسه أو عائلته، وتظل نفسُه تتغذى بهذا الشعور، وتركنُ إليه، حتى ينمحى من ذهنه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾، وحين يطبق الإخوة يطبقها على جماعته وشلته، حتى يصل لدرجة اعتقاد أن الصادقين هم المنتمون لفكره، أو السائرون فى حبه.وفى بيت الله الحرام، استوديو متحرك اسمه التليفون، تصور به كل كبيرة وصغيرة، وتنشر صلاتَك وركوعك وسجودك وتسبيحك وطوافك وسعيك وتقبيلك الحجر الأسود.. إلخ.. هذا خلل كبير، ومرضٌ معدٍ، أصاب الأبدان والقلوب، وهو من آثار (باطن الإثم)، وهو عوج أُمة، ويؤكد أننا مصابون فى داخلنا.
وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل من أهل الجنة، فأقام معه عبدالله بن عمرو ثلاثة أيام، فوجد تدينه عادياً جداً، فسأله: يا أخى: مكثت معك ثلاثة أيام ولم أرَك تعمل كثيراً، فلماذا بشَّرك الرسول بالجنة؟ قال: لأنى لا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، يعنى يجتنب (باطن الإثم).
إذاً: تنقية التدين والتصرفات والخدمات والمنشورات والأفعال من العُجب والحقد والتعاظم والعصبية وتقديس النفس وطلب الشهرة، هو الأساس، ولذلك قال عمر بن عبدالعزيز: «إن استطعت أن تكون عالماً فكن، وإن لم تستطع فكن متعلماً، وإن لم تستطع فأحبهم، وإن لم تستطع فلا تكرههم».
سأل واحدٌ حجةَ الإسلام الإمام أبا حامد الغزالى: كيف أعرف نفسى، هل أنا حاقد أم لا؟ فأجاب بما خلاصته: «لو كنتَ شيخاً ثم ظهر شيخٌ أحسن منك، والناس يلتفون حوله، ففرحتَ به، كان قلبك خالياً من الحقد والحسد»! هذا ضابط راسخ أقوله لنفسى أولاً، ولا تغالط نفسك!! فتكون طبيباً محباً للمهندس، أو مهندساً محباً للمدرس، أو واعظاً محباً للصحفى، ليس الأمر كذلك، فهذا يسير سهل، وإنما الاختبار الحقيقى أن تكون مهندساً محباً للمهندس الأحسن منك، وشيخاً محباً للشيخ الأعلم منك، وطبيباً محباً للطبيب الأمهر منك، فأمراض القلوب غالباً ما تكثر بين الأمثال والأقران والأقارب، فالشيخ يحسد الشيخ لا الطبيب، والمهندس يحسد المهندس لا العالم، والمرأة تحسد ضرتها ولا تحسد أم زوجها، والجار يحسد جاره أو بن عمه ولا يحسد الغريب، ويستفزه نجاح ابن قريته ولا يستفزه نجاح ابن القرية المجاورة، لأن التزاحم هنا على مقصود واحد، ومنشأ هذه الأمراض حب الدنيا، فإن الدنيا تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، من هنا نفهم الحديث القدسى (الصوم لى وأنا أجزى به)، أى الصوم يكون خالياً من الرياء والعجب وآفات باطن الإثم.