آلاف الكتب والدراسات صدرت تتناول جمال عبدالناصر والناصرية والثورة والتجربة والوحدة العربية والقومية وحركات التحرر التى كان وراءها «ناصر». بمناسبة ذكرى وفاته فإننا نكتب ولكن كتاباتنا ليست لكى نذكّر الناس بـ«عبدالناصر» فهو فى قلوبهم وإنما لكى نذكّر أنفسنا بما كان وبما حدث وكيف كان وكيف حدث.
التفاصيل كثيرة فى حياة وإنجازات «ناصر»، لذلك لا يمكن أن نجمع بعضها فى مقال، لكن المسألة الواضحة أن الناس رغم مرور 53 سنة على وفاته لا تنساه، وكثيرون ما زالوا يحتفظون بصوره، ليس فى مصر فحسب وإنما فى الوطن العربى، والقصص التى تروى عن حب «ناصر» فى الدول العربية، خاصة لدى الأجيال كبيرة السن، أمر يجسده اللجوء إلى «ناصر» وصوره عندما تحدث أى حركات ثورية أو للمطالبة بالحقوق، ما زالت صوره تطبع وترفع.
لا تقديس لـ«عبدالناصر» ولكن لا نبخسه حقه فيما حققه. فكر وخطط ودبر للثورة وإنهاء حكم ملكى تجذر فساده، والقضاء على إقطاع توحش مسيطراً على البلاد والعباد. ساعدته عقليته التنظيمية الفذة فى تحقيق كل ما خطط له دون إراقة دماء. كان تركيزه على الفقراء الذين كانوا وقود المجتمع الرأسمالى الأجنبى، وكان همه الأول إجلاء الاحتلال الذى ينشب أنيابه فى كل ركن بالبلاد.
بدأ بقضية الفلاح وإصدار قانون الإصلاح الزراعى الذى أعاد توزيع الأراضى بملكيات تتسع لعدد أكبر من المواطنين. توالت القرارات والإصلاحات، وكان البدء فى مشروع السد العالى وكانت المعركة مع أمريكا والغرب الاستعمارى مرة أخرى. ثم جاء التعاون مع الكتلة الشرقية وصفقة الأسلحة التشيكية.
وكانت الضربة القوية تأميم قناة السويس الذى استفز الاستعمار وسعى لاحتلال مصر مرة أخرى فى عام 1956. وقفت مصر ثابتة ووقف معها العالم المتحرر وكان النصر وانسحب المستعمرون يجرون أذيال الخيبة.
خرجت مصر وجمال عبدالناصر من معركة القناة فى مقدمة الصفوف الأولى فى زعامة العالم. عرف الشرق والغرب أن التصميم والإرادة والعزيمة كفيلة بتحقيق الآمال الكبار فى التحرر وتحرير دول العالم المستعمرة. كان لمصر يد فى تحرير غالبية شعوب القارة الأفريقية والدول العربية. كانت مقراً يلجأ إليه الثوار من كل دول العالم. كانت صيحة الحرية قوية تصل أصداؤها إلى كل ركن فى الكرة الأرضية.
كانت الثورة اجتماعية فى أهدافها. قصدت تحرير الفقراء من فقرهم، وفتحت الباب أمام أبناء الشعب للترقى الاجتماعى والمساهمة فى تقدم وطنهم وعدم قصر الفرص على أبناء الطبقات الغنية التى كونت ثرواتها من قوت البسطاء.
قرر «ناصر» مجانية التعليم الجامعى الذى منعت الملكية وطبقاتها تطبيقه وقصره على من يقدر على دفع المصروفات حتى يبقى أبناء الفقراء فى قاع المجتمع.
صار للعاملين فى الشركات والمؤسسات نصيب من الأرباح ومقاعد فى مجالس الإدارة والجمعيات العمومية.كان «عبدالناصر» أول رئيس لدولتين عربيتين فى إطار الوحدة بين مصر وسوريا، وتدخلت المؤامرات الداخلية والخارجية لضرب الوحدة ونجحت فى ذلك، لكن بقى «عبدالناصر» محتفظاً باسم الجمهورية العربية المتحدة حتى مماته.
كان حجم «عبدالناصر» تجاوز المسموح به من الحكومة الخفية فى العالم، وكان لا بد من القضاء عليه؛ فجاءت حرب اليمن بمؤامرة، ثم حرب 1967 بمؤامرة أخرى، بالتعاون مع رأس الإمبريالية العالمية الولايات المتحدة، وكانت النكسة التى لم تقض على «ناصر» لأن الشعب تمسك به وخرج عن بكرة أبيه يمده بشرعية جديدة لمواصلة النضال والقتال وتحرير الأرض.قاد «عبدالناصر» حرب الاستنزاف بكل شراسة.
أقام حائط الصواريخ. ساعدنا الأصدقاء السوفيت بالسلاح والتدريب، كما ساعدتنا دول صديقة فى النضال، وساندنا أشقاء عرب بالمال. لكن لم يتركوه لحاله، فهو يعاود المقاومة وينظم الجيش ويزوده بالسلاح والعتاد، فكانت مؤامرة أخرى بضرب الفلسطينيين وحصارهم فى عمَّان، وجاء مؤتمر القمة فى القاهرة لينهار جسده وينهزم أمام المرض والضغوط، وما خفى من أشياء لا نعلمها الآن.
ومات «عبدالناصر» فى 28 سبتمبر عام 1970، ورثاه الشاعر الكبير نزار قبانى قائلاً: قتلناك يا جبل الكبرياء.. وآخر قنديل زيت يضىء لنا فى ليالى الشتاء.. وآخر سيف من القادسية.. قتلناك بكلتا يدينا.. وقلنا: المنية.. لماذا قبلت المجىء إلينا؟ فمثلك كان كثيراً علينا.. سقيناك سم العروبة حتى شبعت.. رميناك فى نار عمَّان حتى احترقت.. أريناك غدر العروبة حتى كفرت.. لماذا ظهرت بأرض النفاق.. لماذا ظهرت؟.. ويقول: وراء الجنازة سارت قريش.. فهذا هشام وهذا زياد.. وهذا يريق الدموع عليك.. وخنجره تحت ثوب الحداد.