(1)
إسرائيل قوة عسكرية ضخمة.
هى بذاتها منظومة تسليح متطورة، بفعل دعم عسكرى أمريكى، هو الأكبر لأى دولة فى العالم منذ 1948.
16% من ميزانية الدفاع الإسرائيلية، سنوياً، بتمويل أمريكى.
لديها خبرة فى القتال المباشر مع الجيوش النظامية وغير المباشر مع الجماعات المسلحة.
مع كل ذلك، إسرائيل قد تخسر الحرب.
لماذا؟
(2)
الفوارق العسكرية بين إسرائيل وحماس شاسعة.
إسرائيل، من دون مواءمات أو تأويل أو مواربة، قادرة على سحق حماس.
بلغة الحروب، هذه مواجهة غير متكافئة، لكن عملية 7 أكتوبر كشفت عن تكتيك عسكرى قادر على جرِّ إسرائيل نحو الهزيمة.
حماس قرّبت المسافات العسكرية بينها وبين إسرائيل.
حماس تشد إسرائيل نحو المستنقع، فى إعادة لسيناريوهات النموذج الأمريكى فى أفغانستان والعراق وسوريا وفيتنام وهايتى والصومال، وحتى خلال وجودها فى لبنان ضمن القوات متعددة الجنسيات فى ثمانينات القرن الماضى.
كل هذه المعارك دخلتها أمريكا وخرجت منها بانتصارات محدودة. انتصارات مشوشة وغير واضحة ومشوبة بالفشل، نتائجها آلاف الوفيات بين الأمريكيين واستنزاف مليارات الدولارات.
تعتقد إسرائيل أن العقائد القتالية فى هذه الحالة ليست واحدة. تتوهم أن معركتها حياة أو موت. فناء أو بقاء، فيما كانت معارك أمريكا نوعاً من إثبات النفوذ والقوة فى العالم.
ربما تكون إسرائيل محقة، لكن الصحيح أن اختلاف المعارك لا ينفى تشابه الساحات وتضاريسها وخلفياتها.
كشفت عملية 7 أكتوبر عن مجموعة من الحقائق العسكرية:
- المخابرات الإسرائيلية فشلت فى التحصيل.
- التقدم التكنولوجى لا يمكن أن يكون مصدراً كافياً للأمان.
- حماس تمتلك ترسانة من الأسلحة، كوّنتها وشكّلتها وتُطوِّر فيها.
- حماس تمتلك ماليات واسعة وكبيرة، كوّنتها عبر سنوات من الدعم تحت أعين الإسرائيليين.
وفوق كل ذلك، خلقت نزوحاً إسرائيلياً داخلياً.
130 ألفاً من الإسرائيليين تركوا أماكنهم نحو الداخل الإسرائيلى.
وإذا كان النزوح الداخلى يشكل تهديداً لما سوّقته إسرائيل حول نفسها لسنوات طويلة، فإن النزوح للخارج، الذى بدأ يتسرب لكل إسرائيلى، يهدد مستقبل الدولة الإسرائيلية نفسها.
إسرائيل تقول إن هدفها المعلن حالياً من العملية العسكرية هو سحق حماس للأبد.
ربما تفعل إسرائيل ذلك، لكن خسائرها العسكرية ستظل فى الواجهة:
- خسائر بشرية واسعة.
- تنامى ظاهرة الاستشهاديين (الانتحاريين) فى القطاع وخارجه.
- ظهور عمليات فردية (الذئاب المنفردة).
- ظهور تشكيلات عسكرية جديدة لاستكمال نضال حماس.
- إعادة فتح الجبهات فى القدس الشرقية والضفة الغربية.
- تعرُّض كل مواطن إسرائيلى فى العالم لتهديد محتمل.
- احتمالية دخول أطراف أخرى من الفاعلين من غير الدول للمعركة.
(3)
حماس ليست داعش كما تقول إسرائيل. الدوافع مختلفة، والسياسات مختلفة، والأهداف مختلفة.
حماس لأكثر من ربع قرن، منذ تأسيسها فى 1986 وسيطرتها على الحكم فى القطاع فى 2006، وهى تنتهج سياسات النفس الطويل.
لسنوات طويلة، تبنى حماس قوتها على سياسات طويلة الأمد. حشد متواصل داخل القطاع، حتى كوَّنت جيشاً قوامه 2.3 مليون شخص، بينهم من هو مقاتل وبينهم من هو مستعد للقتال وبينهم من هو داعم له.
هذه عقيدة بقاء أكثر من كونها أيديولوجيا دينية.
ضعف السلطة الفلسطينية وتنامى نفوذ حماس داخل القطاع مكَّنها من التمدد والحشد والتعاطف.
سياسة اللا دولة، التى تنتهجها إسرائيل، وانسداد شرايين الأمل وتتويه الحقائق فى المناطق الرمادية، التى تنتهجها إسرائيل، مكّنت حماس، بدلاً من إضعافها، كما تتوهم إسرائيل.
ذبول القضية الفلسطينية عربياً وعالمياً، وإزاحتها لصالح قضايا أخرى على طاولة المشكلات الدولية، جعل من حماس الأمل الأخير لكل فلسطينى.
إسرائيل خلقت تماهياً بين حماس وكل فلسطينى.
(4)
فى الأيام الأولى للحرب، قدمت إسرائيل نفسها للعالم بوصفها تتعرض لتهديد إرهابى متواصل.
طغت مظلومية إسرائيل على كل حقوق الفلسطينيين.
كان لديها دعم حكومى وشعبى عالمى غير محدود.
لكن ماذا حدث؟
أصبحت قوة إسرائيل، التى طالما افتخرت بها، هى أزمتها، على مجموعة من المحاور:
- استهداف المدنيين والمستشفيات.
- تدمير البنية التحتية فى القطاع.
- رفض النداءات العالمية لضبط النفس.
هذه الأخيرة طرحت على الطاولة مجدداً تساؤل العالم، من الشعوب، فى جدوى المنظمات الدولية القائمة ودورها.
الدعم العالمى الذى تمتعت إسرائيل به فى يومى 7 - 8 أكتوبر ينصهر الآن لصالح أهالى قطاع غزة وفى القلب منهم حماس.
العالم كله يفكر فى اليوم التالى للحرب، إلا إسرائيل.
العالم كله يسأل: ماذا بعد حماس، إلا إسرائيل.
إسرائيل ربما تنجح فى استئصال حماس، لكنها ستواجه فوضى غير منظمة وغير قابلة للسيطرة أو التدوير.
استمرارها فى القطاع سيعيد للطاولة الواقع الإسرائيلى داخل القطاع، فى مرحلة ما قبل الانسحاب فى 2005.
الانسحاب من دون إدارة فوضى مركبة فى ظل الرفض الدولى والعربى للتورط فى إدارة القطاع وفشل تمرير سيناريوهات التهجير.
إسرائيل تعيد القضية إلى قائمة المشكلات الرئيسية فى العالم، بعدما تصورت أنها ذبلت واندثرت.
مصالحها فى التطبيع العربى ستتحرك إلى خارج رقعة الشطرنج طالما بقيت رقعة غزة ملتهبة والأفق مظلماً.
(5)
كل الشواهد تقول إن أمريكا كانت تعلم بتفاصيل هجوم حماس فى 7 أكتوبر، ولم تُبلغ إسرائيل.
هذا التصور مبنى على رغبة أمريكا فى إعادة إسرائيل لما يمكن توصيفه ببيت الطاعة بعد مجموعة من التوترات:
- رفض إسرائيل إيقاف اتفاقات اقتصادية مليارية مع الصين، رغم النصائح الأمريكية.
- رفض إسرائيل المساهمة فى دعم أوكرانيا، بزعم وجود مصالح مشتركة مع روسيا.
- رفض استقبال نتنياهو فى البيت الأبيض.
- اتهام أمريكا بالوقوف وراء أزمة القضاء الأخيرة فى إسرائيل.
وإذا كانت أمريكا تفعل ذلك لإعادة التحكم فى القرار السياسى الإسرائيلى، فإنها - بقصد أو من دون قصد - تعطى مساحة لمنافستها الصين لمزاحمتها أو زحزحتها من التفرد بقطبية العالم، كما تعطيها الفرصة للتمدد فى مناطق جديدة.
أمريكا متورطة فى دعم أوكرانيا، ودخلت على خط الأزمة فى غزة، فيما تعمل الصين على زيادة ميزانياتها العسكرية والوجود فى مسارح جديدة، خاصة دول الجنوب العالمى.
غالبية دول الجنوب العالمى مع غزة فى مواجهة إسرائيل بفعل الصين.
هذه مسارح فقدتها أمريكا لصالح غريمتها الكبرى، بالتوازى مع فقدان نفوذها فى الشرق الأوسط للوجود فى آسيا.
وإذا كان العالم يفقد ثقته فى المؤسسات الدولية التى شكلت قطبية العالم فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالصين تبنى مؤسساتها الخاصة لحقبة جديدة من العالم ما بعد أمريكا.
هذا التصور للواقع المستقبلى سيفرض على الولايات المتحدة أخذ خطوات للوراء فى دعم إسرائيل أو على الأقل تباين المواقف والقرارات.
(6)
باليقين، العالم بعد 7 أكتوبر لن يكون كما قبله، ومستقبل الاقتصاد فى 2024 يظل مرهوناً بحجم صعود الصراع أو هبوطه.