«الشيطان الأعظم» هكذا ينطلق النعت مبالغاً فيه من البعض وخصوصاً كبار السن تجاه استخدام «وسائل التواصل الاجتماعى» فى أى جلسة عائلية، يعقب ذلك دائماً حالة من التحسر مصحوب بتنهيدة خفيفة تجاه ما فعلته وسائل التواصل الاجتماعى بحياتنا وتدميرها للتجمعات العائلية البسيطة.
وقد بدا أن تلك الكلمات خفيفة الوزن، ثقيلة المعنى صارت حقيقة مع مرور الوقت، ولكنها بدأت بالتلاشى مع العدوان الإسرائيلى على غزة، حيث تحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى صوت الحقيقة الذى ينقل للعالم ما يحدث على أرض الواقع من قتل وتنكيل وتشريد لمئات الآلاف بلا رحمة أو ذرة إنسانية، بعيداً عن الانحياز الفج فى وسائل الإعلام الغربى.
ولم يكن كشف وسائل التواصل الاجتماعى للزيف الإعلامى الغربى فقط هو الإفادة الوحيدة، بل أيضاً نجحت ببساطة شديدة فى اختصار عشرات الكتب والدراسات عربية كانت أو أجنبية التى تشرح معنى الاستعمار الغربى الجديد، وهو الاستعمار الذى لا يتم بالدبابات أو البنادق بل يتم من خلال نشر القيم والأفكار الغربية وطمس الهويات العربية إن لم يكن تدميرها.
فرؤية الصمت الممنهج والمشين من قبل الدول الكبرى تجاه ما يحدث فى فلسطين من قتل عائلات بأكملها، ومسح أحياء عن وجه الأرض بقنابل يصل حجمها إلى 900 كيلوجرام بحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، وقطع الكهرباء عن أطفال خدج فى المستشفيات، مسح الصورة الوردية التى ترسمها تلك الدول عن نفسها بأنها راعى الحرية فى العالم، وأن العدالة ونشر الديمقراطية هو هدفها الأول فى الحياة.
لم تكن وسائل التواصل «الشيطان الأعظم»، فهى رويداً رويداً تحولت إلى فأس يحفر بعمق فى قلوب الأجيال الصغيرة التى لا تعرف شيئاً عن فلسطين سوى أنها بلد محتل فقط، ويغرس فى روحهم البريئة بذور الانتماء تجاه فلسطين من جديد ويعرّفهم طبيعة عدوهم، من خلال الفيديوهات الحية لمشاهد تفجير بيوت سكان غزة بمنتهى السهولة كأنها لعبة إلكترونية، مشاهد حمل أشلاء أطفالهم بعد تفجيرهم فى حقائب بلاستيكية سوداء لعدم وجود أكفان، والأصعب مشاهد أطفال صغار مثلهم فقدوا حياتهم بلا ذنب سوى أنهم تمسكوا بأرضهم.
لم تكن «وسائل التواصل» شيطاناً أعظم بعد أن طُور استخدامها، فقد استطاعت بما يتم نشره عبرها أن تدحض الرواية الإسرائيلية عما يحدث فى غزة بأن ذلك القتل المروع للمدنيين واستهدافهم فى المستشفيات والملاجئ والكنائس هو دفاع عن النفس، وصار كثير من المواطنين الغربيين يظهرون فى مقاطع مصورة يعلنون فيها تضامنهم مع فلسطين، وأنهم كانوا مغيبين بفعل «ماكينة» الإعلام الغربى، وتُرجم ذلك فى مسيرات حاشدة ضخمة فى شوارع عواصم أوروبية تندد بما يفعله ذلك العدو الصهيونى.
وأكد ذلك تحليل نشرته مجلة «إيكونوميست» مؤخراً، حيث أشار إلى ارتفاع حجم تأييد القضية الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعى بعد 7 أكتوبر، وأنه وصل إلى 4 أضعاف حجم التأييد الذى يحظى به الإسرائيليون، واعتمدت المجلة البريطانية على تحليل لبيانات بواسطة شركة متخصصة فى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، وأن نسبة التأييد الأكبر بين الشباب فى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
كما ظهر ذلك أيضاً فى بيان لمنصة «تيك توك» العالمية، قالت فيه إن انتشار الدعم الكبير للقضية الفلسطينية عبر المنصة ليس لهم يد فيه، بل السبب الحقيقى هو أن الشباب يميل إلى دعم الفلسطينيين وخصوصاً من «أمريكا».
فى النهاية قد تختلف وجهات النظر حول أدوار وسائل التواصل الاجتماعى ما بين السلب والإيجاب، ولكن لن يكون بوسع أحد إنكار أنها كانت جسراً أعاد إحياء الانتماء للقضية الفلسطينية من جديد فى النفوس، بعد أن رأينا ما يحدث هناك صوتاً وصورة تدمى قلوبنا كل لحظة، ولن يكون بوسع أحد قول إن وسائل التواصل الاجتماعى مجرد «شيطان أعظم».