لم يكتفِ «أنطونيو جوتيريش» بخطته المقترحة لتعزيز قوة الأمم المتحدة وتعزيز سلطة الأمين العام، فى مواجهة السيطرة الأمريكية على المنظمة الأممية، وفتح جبهة أخرى للصراع، مطالباً بإعادة هيكلة كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، لتصحيح ما سمّاه «الأخطاء التاريخية والتحيّز والظلم المتأصل فى الهيكل المالى الدولى الحالى»، وقال: «أنشئ هذا الهيكل عندما كان الكثير من الدول النامية تحت الحكم الاستعمارى»، وطالب بتعزيز تمثيل هذه الدول فى مجلسى إدارة صندوق النقد والبنك الدوليين، ومساعدة الدول على إعادة هيكلة الديون، وتغيير حصص الصندوق، وتجديد استخدام أمواله.
وقبل أيام من مشاركته فى قمة «ميثاق التمويل العالمى الجديد»، التى استضافتها العاصمة الفرنسية «باريس» فى يونيو من العام الماضى، أصدر «جوتيريش» ورقة بحثية انتقد فيها المؤسستين (الصندوق والبنك) لفشلهما الصارخ -حسبما وصف- فى التعامل مع جائحة كورونا، مما أدى إلى ترك عشرات الدول مثقلة بالديون.
وذكر «جوتيريش» في ورقته البحثية أن المؤسستين لم تواكبا النمو العالمي، بدليل أن البنك الدولي لديه حالياً 22 مليار دولار من رأس المال المدفوع، وهي الأموال المستخدَمة فى القروض منخفضة الفائدة والمنح لبرامج التنمية الحكومية، ويقل هذا عن خُمس مستوى التمويل لعام 1960، كنسبة مئوية من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وذلك فى الوقت الذى يعانى فيه الكثير من الدول النامية من أزمة مالية عميقة، تفاقمت بسبب التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة وتجميد تخفيف عبء الديون، وتضطر بعض الحكومات إلى الاختيار بين سداد الديون أو التخلف عن السداد، لدفع رواتب العاملين فى القطاع العام، مما قد يؤدى إلى تدمير تصنيفها الائتمانى لسنوات قادمة، وضرب مثلاً بأفريقيا التى تنفق الآن على تكاليف خدمة الديون أكثر مما تنفقه على الرعاية الصحية.
وأكد «جوتيريش» أن قواعد صندوق النقد الدولى تحابى الدول الغنية بشكل غير عادل، فخلال الجائحة، تلقت الدول السبع الأغنى فى العالم، التى يبلغ عدد سكانها 772 مليون نسمة، ما يعادل 280 مليار دولار من صندوق النقد الدولى، بينما تلقت البلدان النامية، التى يبلغ عدد سكانها 1.1 مليار نسمة، ما يزيد قليلاً على 8 مليارات دولار لأقل البلدان نمواً، وقال «جوتيريش» ساخراً: «تم ذلك وفقاً للقواعد.. هذا خطأ أخلاقى».
ورغم مرور 7 أشهر على صدور «ورقة جوتيريش» من الصمت التام لصندوق النقد الدولى والبنك الدولى إزاء كل هذه الانتقادات، فإن منتقدين آخرين كشفوا عن سيطرة الدول القوية على قيادة المؤسستين، وهو وضع مشابه لوضع الأمم المتحدة نفسها.
وخرجت الانتقادات الأكثر إيلاماً من الداخل الأمريكى، وقال «موريس كوجلر» أستاذ السياسة العامة فى جامعة جورج ميسون الأمريكية العريقة، إن فشل المؤسستين فى مساعدة الدول الأكثر احتياجاً «يعكس استمرار النهج الذى يكون فيه رئيس البنك الدولى مواطناً أمريكياً يعيّنه الرئيس الأمريكى، والمدير الإدارى لصندوق النقد الدولى مواطناً من الاتحاد الأوروبى تعيّنه المفوضية الأوروبية».
وكشف «ريتشارد جوان» مدير شئون الأمم المتحدة فى مجموعة الأزمات الدولية عن حالة الإحباط المتفاقمة التى تُخيّم على أجواء المنظمة الأممية ومؤسساتها من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين على عملية صُنع القرار الدولى.عجز الولايات المتحدة الأمريكية عن مواجهة «أنطونيو جوتيريش»، كشفته مؤخراً تسريبات لوثائق سرية، تؤكد أن «واشنطن» تراقب الأمين العام للأمم المتحدة، وترصد اتصالاته بمساعديه، وأن إدارة «بايدن» ترى أنه يراعى المصالح الروسية.
وتركز إحدى هذه الوثائق المسربة على اتفاقية تصدير الحبوب فى البحر الأسود، التى توسّطت فيها الأمم المتحدة فى يوليو الماضى، لتفادى حدوث أزمة غذاء عالمية، وتشير الوثيقة إلى أن «جوتيريش» كان حريصاً جداً على الحفاظ على إتمام الاتفاقية، وتحسين فُرص روسيا فى التصدير، وتجاهل كل الجهود لمحاسبة «موسكو» على أفعالها فى أوكرانيا، وما زال المسئولون الأمريكيون يسعون لاحتواء فضيحة التجسّس على الدبلوماسى الأول فى العالم، وقال «جون كيربى» منسق مجلس الأمن القومى الأمريكى للاتصالات الاستراتيجية فى البيت الأبيض إن الحكومة الأمريكية تجرى تحقيقاً جنائياً للوصول إلى حقيقة التسريبات، التى يبدو أنها جاءت من مصادر مختلفة للاستخبارات فى الحكومة.
ورغم أنه معلوم تماماً أن الولايات المتحدة تتجسّس بشكل روتينى على الأمم المتحدة، إلا أن الكشف عن بعض خبايا هذا التجسّس، يضع أمريكا فى حرج بالغ أمام الجميع.
«جوتيريش» المسكون بروح المناضل، ما زال قابضاً على الجمر فى معركته الدبلوماسية الخشنة فى مواجهة الهمجية الإسرائيلية، والهيمنة الأمريكية، ويعرف أن أمامه أقل من ثلاث سنوات على انتهاء مدته كأمين عام للأمم المتحدة، فإن أنجز سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وإن لم يُنجز سيُخلده التاريخ بشرف المحاولة.. محاولة إيقاظ الضمير الإنسانى والدفاع عن المعذّبين فى كوكب الأرض.