منذ أربعة عشر عاماً رحل عنا نزار قبانى، وفى يوم رحيله دار جدل شديد فى مسجد المركز الإسلامى بلندن، كان محور الجدل الساخن يدور حول ما إذا كانــت الصـــلاة على جثمـــان نزار حلالاً أم حراماً ؟!! كانت مواجهة بين شراسة وقسوة التزمت وسحر وجمال الفن، أكدت تلك المواجهة على أن أشد ما يخشى منه المتطرف هو الفن الذى يستطيع هزّ عرشه، والفنان الذى يسحب البساط من تحت قدميه. بلغت الكراهية والعدوانية أقصى مداها ضد نزار حتى وهو جثمان راقد فى نعشه.
هناك مفاجأة لا يعرفها من رفض الصلاة على جثمانه، وهى أن نزار قبانى الشاعر النجم كتب واحدة من أروع القصائد العمودية فى مدح النبى عليه الصلاة والسلام، والتى يقول فيها «يا من وُلدت فأشرقـت بربوعنـا، نفحات نورك وانجلى الإظـلام، أأعود ظمآنـاً وغيـرى يرتـوى، أيُرد عن حوض النبى هيـام، كيف الدخول إلى رحاب المصطفى، والنفس حيرى والذنوب جسام». المشكلة أن نزار لم يكن على الكتالوج الذى يريدونه، هم لا يفهمون ما هو الفن، وهو لا يفهم ما هى المشكلة، ما هى مشكلة أن يكون شاعراً متمرداً مبدعاً فى وطن يقول عن نفسه إنه وطن الشعر والفصاحة؟ المشكلة هى أننا ما زلنا لا نعرف ما هى وظيفة الشعر والشاعر. هل الشعر ثورة أم عورة، وهل الشاعر محرض أم مهرج؟ هل هو مزعج القوم ومقلق القبيلة، أم هو نديم السلطان ومضحك الملك؟! تعالوا نعرف من نزار نفسه ما هى وظيفة الشعر.
يقول نزار: «قد تكون الرحلة متعبةــ، وقد تحرمكـم النوم والطمأنينة، ولكن من قال إن وظيفة الشعر هى أن يحمل لأجفانكــم النوم، ولقلوبكم الطمأنينة.. إن وظيفة الشـــعر هى أن يغتال الطمأنينة..»، «مهمـــة الشاعر أن يكون جهاز الرصد الذى يلتقط كل الذبذبات والاهتزازات والانفجـــارات التى تحدث فى داخل الأرض، وفـــى داخل الإنســان. إن جهـــازه العصبى يجب أن يظل 24 ساعة فى الـ 24 ساعة فى حالة استنفار ورقابة، بحيث يستوعب كل حركة تحدث تحت أرض التاريخ كما تتحــسس الخــــيول قرب سقوط المطر قبل سقوطه، وهوائيــات الشاعر هذه، تسمــح له بأن يســمع أســـرع من غـــيره، وأقــــوى من غيره، وبهذا المعنى يأخذ الشعر مدلول النبــوءة، إن الشاعر ليس منجماً ولا ساحراً، وليس عنده مفتاح الغيوب، ولكن أهميته فى أن يسبق الآخرين بثانية، أو بجزء من أجزاء الثانية فى اكتشاف الحقيقة، ويقدمها لهم على طبق من الدهشة».