أثارت الأنباء الواردة حول هجوم الكلاب فى فلسطين على جنود الاحتلال استغراب الكثيرين، وأنا منهم، خاصة مع أنباء دخول آلاف منها إلى الأراضى المحتلة، ولكن ما لا يعرفه البعض أن الكلاب التى تحتل مكانة كبرى فى الأدبيات العربية، بداية من كتاب الحيوان، مروراً بالأحاديث النبوية الشريفة، لها شأن خاص مع العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، وهو ما تم إثباته عبر عدد من الدراسات العلمية، فما القصة إذاً؟
لَيتَ الكِلابَ لَنا كانَت مُجاوِرَةً
وَلَيتَنا لا نَرى مِمّا نَرى أَحَدا
إِنَّ الكِلابَ لَتَهدى فى مَواطِنِها
وَالخَلقُ لَيسَ بِهادٍ شَرُّهُم أَبَدا (الإمام الشافعى)
لأجل «الكلاب» كُتبت القصائد، والكتب، وسرت الحكايات والأمثال، هكذا قارنها الإمام الشافعى بالبشر، فرجحت كفتها أمام كفة شر الخلق برأيه، ولأجل حكاياتها الطيبة، ومآثرها الأخاذة حمل كثير من قبائل العرب أسماء تنسب فى الأصل للكلب، مثل بنى كلاب، فضلاً عن قبائل كلب وكليب وكلاب، وهى قبائل معروفة.
ربما لهذه المكانة الكبيرة أطلق العرب اسم «يوم الكلاب الأول» على واحدة من أشهر حروب الجاهلية، وعلى المنوال ذاته جاء «يوم الكلاب الثانى»، وفى كتاب لسان العرب لابن منظور، يقول أبوعبيد: كلاب الأول، وكلاب الثانى يومان، كانا بين ملوك كندة وبنى تميم، والكلاب موضع أو ماء معروف، وبين الدهناء واليمامة موضع يقال له الكلاب أيضاً.
وصل الأمر إلى أن فرس عامر الطفيل كان يدعى: الكلب، وعموماً فإن «كلاب»، هى اسم رجل سُمى بذلك ثم غلب على الحى والقبيلة فى قديم الزمان، ولكن هل استحقت الكلاب هذه السمعة البيضاء الناصعة، وما علاقتها بالفلسطينيين بالذات؟
كلاب هى فى الأصل «ذئاب»!
ساعد الكلب الإنسان فى الجزيرة العربية قبل 8 آلاف عام، بحسب رسوم نقشت على كهوف سعودية، تعد هى الأقدم عن الصداقة التى توطدت بين الإنسان والكلاب فى تلك المنطقة، حيث تظهر الرسوم المنقوشة صوراً لكلاب مرسومة كلها ذات مقاييس واحدة تقريباً، تتميز بوجهها القصير وذيولها الملتوية، ما يرجح انتماء الكلاب إلى نوع واحد.
وفى دراسة منشورة عام 2018 عثر باحثون على دلائل فى منطقتى الشويمس -التى تعد أكبر متحف مفتوح للنقوش الصخرية فى شبه الجزيرة- وجبة، الواقعتين فى حائل، شمال غرب المملكة العربية السعودية، توضح مشاهد واستراتيجيات الصيد بمساعدة الكلاب قبل انتشار الرعى، بداية من الألفية السابعة، وربما الألفية الثامنة قبل الميلاد.
صحيح أن أنواع الكلاب المصورة لا توضح نوعها، إلا أنها تبدو ككلاب كنعانية حديثة، 147 مشهداً للصيد بمساعدة الكلاب، تثير الكثير من الأسئلة: هل تم إحضار تلك الكلاب إلى شبه الجزيرة من بلاد الشام أم أنها ذئاب شبه الجزيرة العربية عقب تدجينها؟ سؤال حاول الباحثون الإجابة عنه بالفعل عبر دراسة أخرى نشرت عام 2013 تدعم فكرة أن كلاب المملكة منحدرة من ذئابها، حيث أشارت إلى أن العديد من الكلاب التى تتجول فى المملكة العربية السعودية هى كلاب هجينة بين الكلاب الضالة والذئاب.
وجهة نظر يدعمها الجاحظ فى كتابه بقوله: «وأنها كالخلق المركب والحيوان الملفق، كالبغل فى الدواب، وأنها لا سبع ولا بهيمة، ولا إنسية ولا جنية، وأنها من الحن دون الجن، وأنها تنبش القبور، وتأكل الموتى، لذا يعتريها الكَلَب من أكل لحوم الناس».
فى فلسطين يبدو الأمر أبعد من ذلك، حيث تبدو العلاقة بين الكلاب والإنسان فى المنطقة أعمق وأبعد لأكثر من 8 آلاف عام مضت، ففى دراسة نشرت بمجلة نيتشر، أشار باحثون إلى ثلاثة اكتشافات لهياكل عظمية لجراء ذئاب وكلاب مدفونة مع البشر فى أرض فلسطين المحتلة، علاقة وثيقة، و«وفاء» متبادل، دفعت الكلاب للهجوم على جنود الاحتلال.
ربما تلك الدراسة بالذات كانت التفسير المنطقى والعلمى الأقرب لكل هذا الوفاء، الذى دفع كلاب الشوارع فى غزة إلى مهاجمة جنود الاحتلال، وكلابها المدربة على كشف المتفجرات ورجال المقاومة.
الظاهرة التى أثارت جدلاً واسعاً، وأفسدت عمل كلاب الاحتلال وأعاقتها عن أداء مهمتها التى تدربت عليها لشهور، وربما سنوات، امتدت ليصل الأمر إلى ما هو أبعد حيث عدد من الأخبار حول تسلل أكثر من ألف كلب إلى الأراضى المحتلة، تاركة حالة من الذهول والأسئلة داخل المتابعين، واليقين والثقة داخلى، أن الأرض تعرف أصحابها، والكلاب تعرف بفطرتها من هم أصحاب الأرض.