اتسعتْ عيناى من فرط الدهشة وأنا أطالع، عبر صفحات كتاب قديم نادر، سرد الشاعر والأديب «أبى طالب خان»، عن لحظة شربه نخب تدمير أسطول بونابرت! ومع مَن كان يتشارك الكأس؟! مع شخص القائد الإنجليزى نفسه الذى أغرق أسطول الحملة الفرنسية فى الإسكندرية؛ «نِلسون»! أبوطالب، ذو الجذور الفارسية، الذى كان قادماً من الهند فى زيارة إلى إنجلترا فجر القرن الـ19، كانت الأقدار هى مَن رتبت له هذا اللقاء الثمين مع «نِلسون»، لكن بدا أن شفتَى السيدة «أليس كريستيان» كانت أثمن!
العارفون بتفاصيل موقعة «أبى قير البحرية» يدركون أن هذه المعركة، التى نشبتْ فى الإسكندرية صيف 1798، لو أُعيدت عشر مرات، رُبما ما انتهتْ لصالح «نِلسون» فى أى مرة! لكنها تفاصيل صغيرة تراكمتْ، أدتْ إلى تلك النهاية التى ظل «نابليون» يتألم منها حتى ختام عُمره فى منفى جزيرة «سانت هيلانة».
«بونابرت»، الذى كان فى القاهرة يومئذٍ، كان على يقين بأنه لو كان هو مَن أدار المشهد؛ أبداً ما وقعت مقتلة كهذه فى مراكبه، وأبداً ما استحالت حملته فجأة معزولة ومحاصرة فى أفريقيا! كثيرون يتذكرون فوق سبورة حصة التاريخ، ووسط رائحة الطباشير، السبب الأشهر لإخفاق الحملة الفرنسية: (تدمير نِلسون أسطول بونابرت فى الإسكندرية).
المتدبرون فى الوقائع يدركون أن هذا السبب المقتضب قد غيّر مجرى التاريخ، فماذا لو لم يدمر «نِلسون» أسطول «بونابرت» فى «أبى قير»؟! فى الأغلب لم تكن الحملة لتغادر أبداً عقب ثلاث سنوات، ولما جاء «محمد على» وأسرته، ولشهدتْ مصر والمنطقة حولها حقبة بقاء فرنسى أطول.
وعلى الأرجح، فإن تركيبتنا الاجتماعية والثقافية كانت ستشهد تأثرات عميقة، لا سيَّما إن وضعنا فى الحسبان الطبيعة المتغلغلة للفرنسيين، والأحلام طويلة الأجل لعلماء الحملة، وتسليم، بل ترحيب دوائر كثيرة -مسلمين وأقباطاً ومماليك وشواماً وأرواماً- بالأمر الواقع، والخليفة المسيحى الجديد، فضلاً عن العلاقات الغرامية التى اتقدتْ بين ذكور فرنسيين وحيدين، ونسوة من أهل البلد، كن منبهرات بلطف الرجال الجدد، بعدما عقدن مقارنات بين هؤلاء الوسام وغلظة المصرى.
على أى حال، فإن أى أفكار تُستهل بـ«ماذا لو..؟»، ستظل محض خيال؛ لأن «نِلسون» غيّر مسار الأحداث، ودمر الأسطول، ثم شاركه أبوطالب خان نخب النصر!
يقص أبوطالب خان كيف أن عمدة لندن الجديد «هيرفى كومب» دعاه إلى قصره، فلما وصل اكتشف أنه وسط احتفال خاص بحضور وزراء وحشد من المدعوين! وقد رحب العمدة بـ«خان» وعرَّفه إلى زوجته التى كانت ترتدى كما الملكة! ثم أجلسه إلى المائدة الرئيسية، حيث كثير من اللحوم، والفواكه، والنبيذ، ليجد على المائدة نفسها «هوراشيو نِلسون».
وبعد تناول الغداء شرب الجميع نخب القائد، قائلين: «نشرب لسعادة اللورد نِلسون، وليكن ظفره فى موقعة النيل غير منسى أبداً»، ثم اصطف المدعوون للمرور أمام المائدة، مقدمين التحية للبطل. بعد ذلك نهض العمدة، وقلّد «نِلسون»، باسم المدينة، سيفاً مطعماً بالألماس، وقد تعهد «نِلسون» بأنه بهذا السيف، وبحماية من الله، سوف يُخضع كل أعداء إنجلترا، ليبدأ الرقص حتى الصباح.
وقد وصف «أبوطالب» الليلة بأنها من أمتع ليالى حياته! وبدا أن «خان» رغم اكتراثه بأدق التفاصيل، لم يكن مكترثاً بـ«نِلسون»، حتى إنه لم يذكر أنه كان فاقداً إحدى عينيه، وجزءاً من إحدى ذراعيه، من أثر معارك ماضية! وفى ظنى أن أبا طالب كان مندوهاً بجمال زوجة عمدة لندن! لقد وصف حُسنها بالساحر الملائكى، وأنها كانت مثل القمر بين الكواكب! وقد التقاها عقب تلك الليلة فى دار رقص تنكرى، ورغم إخفائها وجهها، فإنه عرفها من شفتيها، وصارحها قائلاً: «ليس فى لندن إلا امرأة واحدة لها هذا الجمال فى الأسنان، وهاتان الشفتان الورديتان»!
إن مصادر التاريخ غير التقليدية، مثل الرسائل، والمذكرات، وأدب الرحلات، تجعلنا نستكمل الوقائع المقولبة الصماء فى أذهاننا على نحو مختلف ومؤنسن، فلولا هذا المشهد الفريد من كتاب «رحلة أبى طالب خان إلى العراق وأوروبا»، لما أطللنا على تفاصيل احتفال مهم ومكمل لموقعة «أبى قير البحرية» عبر عينَى أحد الشرقيين، ولولا وردية شفتَى امرأة العمدة، لرُبما دَوَّنَ أبوطالب خان ما هو أكثر عن التاريخ البعيد لهذا المساء، لكنها الأنثى!