منذ سنين طويلة فى عمر الطفولة فى قريتنا الحاجر بسوهاج كان لدينا كلب أسود ضخم لكنه غير مؤذٍ. عندما كبر فى العمر خرج مرة من البيت فتلقفه مجموعة من الشباب وكأنهم كانوا ينتظرونه، وبدون سبب أو مبرر أشبعوه ضرباً بالعصى الغليظة قاصدين قتله. لم يكن عمرى يسمح بمقاومتهم وهم فى تلك الحالة من النشوة الغريبة، حيث كانوا يتصايحون بصيحات تعبر عن تلذذهم بما يفعلون، ولم أكن أملك إلا أن بكيت الكلب البرىء الذى لم يفهم لماذا يضربونه ولماذا يقتلونه وهو لم يفعل شيئاً ولم يعض أحداً، وحتى الآن لم أفهم لماذا فعلوا ذلك ولماذا كانوا مبتهجين بقتل كلب حيوان لم يفعل لهم شيئاً.. حتى الآن لم أفهم.المغنى الفرنسى فرنسيس كابريل أو جابريل غنى متبنياً وجهة نظر ثور من الثيران التى يصارعها الإسبان والذى تحدث بلسانه قائلاً: «لم أر فى حياتى أشخاصاً فرحين لهذا الحد بجثة ويرقصون حولها». كما تساءل كلب الصعيد عن سبب قتله ببشاعة، تساءل ثور إسبانيا أيضاً عن سبب فرحة قاتليه بجثته ورقصهم حولها.عرفت إسبانيا مصارعة الثيران فى زمن لم يحدد ولا يعرفه أحد بدقة. لكن هذه المصارعة الدامية زاد انتشارها فى القرن الثامن عشر، وحرص المصارعون على تطوير آلاتهم القاتلة وقواعد المصارعة. وخلال تلك القرون قتل مئات الآلاف من الثيران بعد تعذيبها بدون مبرر إلا شغف البشر بتعذيب حيوان برىء والتلذذ برؤية الدماء. وقد صارت تلك المصارعة جزءاً من الثقافة الإسبانية التى ترعاها الدولة وتخصص الجوائز المالية للمصارعين الفائزين فى المصارعة، بل اعتبرها الاتحاد الأوروبى كذلك. وحفل الأدب الإسبانى بالروايات التى تحولت إلى أفلام عن مصارعة الثيران وبطولة «الماتادور» أو المصارع الذى يعنى لقبه «الرجل القاتل»، وصار القاتل هذا نموذجاً للبطل الذى تهواه الفتيات والنساء ويكون له مكانة اجتماعية مميزة.حتى فى عالم كرة القدم صار إطلاق لقب ماتادور على لاعب يعنى براعته وقدرته على قتل خصمه فى اللعب، وكثيراً ما تعامل مشاهير اللاعبين فى الملاعب بهذه الطريقة، يلوحون للجماهير بقطعة قماش أرجوانية للاحتفال على طريقة مصارعى الثيران.صارت مصارعة الثيران بالنسبة للمثقفين!! والفنانين والشعراء والأدباء بمثابة نافذة إلى روح إسبانيا وشعبها. لكن فى السنوات الأخيرة علت أصوات جمعيات الرفق بالحيوان مثيرة جدلاً أخلاقياً بشأن فكرة قتل وسفك دماء حيوان بهدف التسلية أو باسم الثقافة والفن. نبذ الحقوقيون توجهات النخبة أو الطبقات الغنية الذين يشجعون قتل الثيران، وعلى جانب آخر كانت مقاطعة كاتالونيا قد ألغت مصارعة الثيران على أراضيها، وهى ثانى منطقة إسبانية تحظر مصارعة الثيران بعد جزر الكنارى التى حظرتها عام 1991، لكن الحكومة رأت أنها جزء من التراث الثقافى للبلاد ومن واجب الدولة الحفاظ عليه وأيدتها فى ذلك المحكمة الدستورية.فى المجال السياسى يؤيد اليمين بقوة مصارعة الثيران، بينما اليسار يعارض المصارعة القاتلة ويرى أنها وحشية لا مكان لها فى إسبانيا الحديثة فى ظل تنامى حقوق الحيوان.الخبر الجيد والمفرح لى أن وزارة الثقافة ألغت خلال الأيام الماضية المسابقة الوطنية لمصارعة الثيران، التى تقام سنوياً ويحصل الفائز فيها على جائزة مالية 30 ألف يورو. استندت الوزارة فى قرارها إلى «الواقع الاجتماعى والثقافى الجديد وتزايد المشاعر تجاه حقوق الحيوان وانخفاض نسبة الجمهور فى حلبات المصارعة ما يدل على توجهات مختلفة للأجيال الجديدة». قال وزير الثقافة إرنست أورتاسون: إن غالبية الإسبان صاروا عاجزين عن فهم سبب ممارسة تعذيب الحيوانات فى بلادنا، ولماذا تمنح جائزة مالية مقابل هذا التعذيب وهذا القتل باستخدام الأموال العامة؟